الوثيقة | مشاهدة الموضوع - العراق... نهران يحتضران وساسة غائبون : مهند محمود شوقي
تغيير حجم الخط     

العراق... نهران يحتضران وساسة غائبون : مهند محمود شوقي

مشاركة » الجمعة أكتوبر 31, 2025 5:24 am

1.jpeg
 
لم يعرف العراق في تاريخه الحديث أزمة أخطر من تلك التي تضرب نهري دجلة والفرات. فالماء الذي كان رمز الازدهار والحياة بات اليوم عنواناً للخطر والتهديد. من الموصل إلى البصرة، تتناقص مناسيب النهرين عاماً بعد عام، في مشهدٍ يعكس تغيّر المناخ وسوء الإدارة وتنامي مشاريع السدود في دول المنبع، لتتحول أرض السواد شيئاً فشيئاً إلى أرضٍ عطشى.

تشير تقارير الأمم المتحدة ومنظمة الأغذية والزراعة (FAO) إلى أن العراق خسر خلال العقدين الأخيرين ما يقارب 40 بالمئة من موارده المائية السطحية، وهو رقم صادم لبلدٍ كان يوصف بأنه “جنة النهرين”. أما منظمة يونيسف فقد حذّرت في تقريرها لعام 2021 من أن تدفق نهر دجلة انخفض بنسبة 29 بالمئة، فيما هبط تدفق الفرات بنسبة 73 بالمئة مقارنة بمعدلاته الطبيعية في السنوات السابقة.

كما يشير المسؤولون العراقيون إلى انخفاض منسوب المياه في سد الموصل، وسد الثرثار، وسد دوكان، ما يزيد من حدة أزمة المياه ويهدد الأمن المائي والزراعي في المناطق الواقعة أسفل هذه السدود.

السبب لا يقف عند حدود الطبيعة وحدها، بل يتجاوزها إلى الإنسان. فتركيا التي تبني سلسلة من السدود العملاقة ضمن مشروع جنوب شرق الأناضول (GAP)، وعلى رأسها سد إيلوسو الذي بدأ تشغيله عام 2020، احتجزت كميات ضخمة من المياه التي كانت تتدفق إلى العراق. وتشير الدراسات إلى أن تشغيل السد خفّض منسوب دجلة داخل الأراضي العراقية إلى مستويات غير مسبوقة. أما من الشرق، فإيران حولت مجاري عدد من الروافد التي تصب في دجلة، مثل نهر الكارون والزاب الصغير، ما أدى إلى تفاقم الأزمة في محافظات ديالى وواسط والبصرة.

وفي خضم هذا الانخفاض، يبقى الدور العراقي ضعيفًا في التوصل إلى اتفاقيات مائية ملزمة مع دول الجوار. فالمفاوضات غالبًا ما تتسم بالبطء والتردد وتفتقر إلى الرؤية الاستراتيجية الموحدة، فيما يحصل العراق حاليًا على أقل من 40 بالمئة من حصته المائية المستحقة.

ففي الداخل، تُهدر الموارد المائية وتُستباح الأنهار تحت أنظار الجميع. فقد تحولت ضفاف دجلة في بغداد والعمارة إلى ساحات للكري والطمر المتعمد، قبل أن تُستغل الأراضي المجروفة لبناء دور وقصور ومشاريع خاصة من قبل جهات متنفذة. هذه الممارسات تدمّر التوازن الطبيعي للنهر وتضيّق مجراه، مما يزيد من خطر الفيضانات والجفاف، ويكشف كيف تحولت ضفاف دجلة من ممتلك عام إلى مكسب خاص، وسط صمت رسمي يعكس حجم الفوضى في إدارة ملف المياه.

وفي الوقت الذي تغيب فيه استراتيجية وطنية موحدة، ينشغل الساسة والأحزاب العراقية بصراعات السلطة والفساد والاقتصاد، بينما يُترك ملف المياه — وهو أخطر ملفات الأمن القومي — في الهامش. الانقسام السياسي وضعف القرار جعل العراق يبدو متلقياً للأزمات لا صانعًا للحلول، فيما تتصرف دول الجوار وفق مصالحها دون حساب لعواقب الكارثة الإنسانية المقبلة.

أما من حيث الأثر البيئي، فالمشهد في الجنوب يختصر المأساة بأكملها. العراق بلد زراعي في جوهره، وكانت حقوله عبر التاريخ تمدّ المنطقة بالقمح والشعير والتمور. اليوم تقلصت المساحات المزروعة إلى أقل من النصف، وتفاقمت الكارثة في أهوار الجنوب التي جف قسم كبير منها بعد أن كانت مدرجة ضمن لائحة التراث العالمي. تجاوزت نسبة الملوحة في شط العرب 6,000 جزء في المليون، ما تسبب بفاجعة بيئية كبرى: نفوق آلاف الأطنان من الأسماك، وانخفاض أعداد الجاموس من نحو 150 ألف رأس عام 2015 إلى أقل من 65 ألف رأس في 2025.

الأسوأ أن شركات النفط العاملة في الجنوب تسحب يوميًا أكثر من 60 ألف متر مكعب من مياه دجلة لأغراض صناعية، ما يفاقم الضغط على الخزان المائي ويُسرّع من جفاف الأهوار التاريخية. أما برنامج الأغذية العالمي ومنظمة الأغذية والزراعة فقد حذّرا من أن استمرار هذا التدهور سيؤدي إلى موجات نزوح بيئي غير مسبوقة داخل العراق خلال العقد المقبل.

هذه الحقائق تكشف أن أزمة دجلة والفرات لم تعد مسألة مناخية فحسب، بل أزمة حوكمة وغياب إرادة سياسية. فبين ضعف الموقف التفاوضي، والعبث الداخلي، وانشغال الساسة بملفات ثانوية، تتجه البلاد نحو مستقبل مائي قاتم. الحلول لا يمكن أن تكون ترقيعية، بل تتطلب اتفاقًا إقليميًا ملزمًا يضمن عدالة التوزيع المائي، وخطة وطنية لإدارة الموارد بعقل استراتيجي بعيدًا عن المصالح الحزبية.

اليوم يقف العراق أمام مفترق تاريخي: فإما أن يتحرك سريعًا لإنقاذ شرايينه المائية، أو يترك دجلة والفرات يجفان ببطء، فيتحول الحلم الرافديني إلى ذكرى. فالماء ليس مجرد مورد طبيعي، بل هو جوهر الحياة وعماد السيادة. وإذا ما استمر النزيف المائي على هذا النحو، فإن ما يُخشى أن يُكتب في المستقبل هو أن بلاد الرافدين فقدت أنهارها قبل أن تفقد أرضها.

مختصون يرون أن استمرار أزمة المياه في العراق يحمل تداعيات مباشرة على الاستقرار الداخلي. فالجفاف يفاقم الفقر والبطالة، ويزيد من حدة النزوح الداخلي من الريف إلى المدن، ما يضغط على البنى التحتية ويؤجج التوترات الاجتماعية. وفي غياب إدارة حكومية فعّالة وسياسات وقائية، قد تتحول هذه الأزمة البيئية إلى مصدر صراع محتمل بين المجتمعات المحلية، وبين العراق ودول الجوار على خلفية حصص المياه، مما يضع البلاد أمام تحديات مزدوجة: بيئية وأمنية في الوقت نفسه.
العناوين الاكثر قراءة









 

العودة إلى المقالات