ابتداءا وقبل الخوض في موضوع المقالة هناك نقطتان أساسيتان يجب تثبيتهما قبل الحديث عن ما يجري: الاولى ان التمادي الاسرائيلي لم يكن ليصل إلى هذه الدرجة من الاستهتار والبلطجة لو ان مبدا (وحدة الساحات) قد طُبق كما اتُفقَ عليه قبل انطلاق عملية طوفان الاقصى المباركة. واذكر اني كتبت آنذاك بان غزة او المقاومة يجب ان لا تترك لوحدها، وان الفرصة اصبحت مواتية لإعادة دولة الاحتلال إلى حجمها الطبيعي، الذي منحه إياها قرار التقسيم الذي مرر في الامم المتحدة في غفلة من الزمن، وبمؤامرة دولية مبيتة قادتها بريطانيا والولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وفرنسا ودول اوروبا قاطبة. ولكن التردد مكن الاحتلال من اتباع كل الوسائل الهمجية ومجازر غير مسبوقة، والاهم منحه الفرصة للاستفراد بكل طرف لوحده، و لا يوجد حاجة لتوضيح ذلك.
ثانيا ان ايران، ورغم الضربة التي تلقتها في البداية، والتي أعطت الكيان المحتل الشعور بانه حقق نصرا معنويا وعسكريا وسياسيا كبيرا، استطاعت في اقل من 24 ساعة ان ترد على العدوان بطريقة لم تتوقعها إسرائيل، ومعها كل المشككين بقدرات ايران. وربما كان هذا الرد القوي هو ما دفع الرئيس ترامب، الذي حاول ان يلعب دور المحايد، إلى الكشف عن نياته الحقيقية عندما حرك حاملة الطائرات نيمتز من بحر الصين، لتنظم إلى الحاملات الأخرى في الشرق الأوسط، ثم توج ذلك بطلب غريب ومفاجئ وجهه إلى سكنة طهران يأمرهم بمغادرة المدينة وبدون مقدمات (كما طلب افراغ غزة من اهلها سابقا)، ثم غادر اجتماع مجموعة السبعة في كندا قبل نهايته عائدا إلى واشنطن، وارفق ذلك بطلب اجتماع لمجلس الامن القومي. وهذه كلها إشارات إلى نيته للدخول مباشرة في المواجهة الدائرة بين ايران واسرائيل، طبعا إلى جانب الأخيرة.
ad
في تحليل لما يجري يبدو ان إسرائيل وبعد ان فشلت في ايقاف الصواريخ القادمة من اليمن، إضافة إلى الفشل في السيطرة على المقاومة في غزة، قد توصلت إلى نتيجة مفادها ان كل هذه التحركات المقلقة لها لا يمكن ان تنتهي إلا بتحييد الدور الإيراني، الداعم الأساسي لكل حركات المقاومة للاحتلال. استغلال مسالة النووي الإيراني كان الحجة التي استخدمها نتنياهو لكي يبرر الهجوم على ايران وتحشيد الدعم الأمريكي والغربي له، لكن الهدف الحقيقي لما خطط له يبقى هو اسقاط النظام في ايران وتدمير كل القدرات الصاروخية والمسيرات، ما موجود منها والمعامل المنتجة لها. ويبدو ايضا ان المخابرات الاسرائيلية التي تمكنت من التغلغل في الداخل الإيراني، والمعتمدة على مثيلتها في الولايات المتحدة، قد استطاعت ان تجمع معلومات كثيرة وكبيرة وموثقة عن الداخل الإيراني، بل وتخلق لها وجودا في الأراضي الإيرانية ايضا، وهو ما مكنها من توجيه الضربة الكبيرة والموجعة للقيادات الإيرانية العسكرية والعلماء في المجال النووي في الساعات الاولى. والنجاح الإسرائيلي الأكبر، او الفشل الإيراني الأكبر، هو ما يتعلق بأنظمة الدفاع الجوي. إسرائيل ادعت انها استطاعت، منذ اكثر من عام، ان تدمر منصات إطلاق الصواريخ المضادة للطائرات او نظام الدفاع الجوي، ثم اتضح ان هذا الادعاء فيه نوع من الصحة بدليل ان السيادة الجوية كانت كاملة للطيران الاسرائيلي. كما ظهر ان ايران لم تستطع ان تعيد بناء نظام دفاع جوي قادر على مواجهة هجمة الطيران الاسرائيلي والصواريخ بعيدة المدى والمسيرات التي طالت كل الأراضي الإيرانية. ثم ظهر ان إسرائيل تمكنت من تشكيل مجاميع صغيرة تابعة لها تقوم بتجميع المسيرات في داخل ايران والتجول بها في سيارات حمل صغيرة وإطلاقها في المناطق المطلوبة. وهي الطريقة التي تمكنت من خلالها من استهداف القيادات العسكرية والعلماء، وكذلك منصات إطلاق الصواريخ ومناطق تصنيعها.
بالمقابل استطاعت ايران، وفي وقت اعتقد الكثيرين بانها في طريقها إلى رفع الراية البيضاء والذهاب إلى التمزق والتفتت، ان تستعيد توازنها بصورة لا بد وان تثير الإعجاب، وان توجه، ولا زالت، ضربات موجعة ودقيقة في داخل فلسطين المحتلة. (ويظهر ان عمليات الهدهد التي افتخر بها الشهيد السيد حسن نصر الله كانت الاساس في تأشير المناطق والمراكز الحساسة). لقد تمكنت الضربات الإيرانية لحد الان وخلال ثلاثة ايام من احداث تدمير هائل داخل فلسطين المحتلة لم تحدثه كل الحروب العربية السابقة. والاهم ان التدمير لم يكن عشوائيا وانما طال مواقع حساسة عسكريا وتكنولوجيا ومراكز بحثية .
هناك اسئلة عديدة لابد وان تثار الان لعكسها على ما هو قادم. الاول هو هل ان اسرائيل حقا قد تمكنت من تدمير ثلث القدرات الصاروخيّة الإيرانية او 40% منها؟ (وهي تدلل على ذلك بانخفاض الصواريخ التي يتم اطلاقها باتجاه الارض المحتلة؟). وهذه مسالة مهمة جدا بالنسبة لنتائج المواجهة. ولكن ايران تقول ان تخفيف الهجمات الصاروخية يعود إلى استخدام صواريخ حديثة أكثر فاعلية، وتأثير كل واحد منها يعادل ما يحدثه اكثر من عشرة صواريخ تقليدية، والدليل على ذلك هو التأثير التدميري الكبير الذي احدثته، وفشل قلب الدفاع الجوي الاسرائيلية في تعقبها او اسقاطها.
ad
الثاني هو هل حقيقة ان إسرائيل تمكنت من امتلاك سيطرة كاملة على الأجواء الإيرانية؟ واقع الحال يعطي هذا الانطباع ولكن ما تدعيه تل ابيب لم يوقف الردود الإيرانية الكبيرة والمستمرة، وان ايران تملك افضلية في هذا المجال نظرا لسعة مساحتها مقارنة مع مساحة فلسطين المحتلة. السؤال الثالث والاهم هو كيف سيكون مصير هذه المواجهة إذا ما قرر الرئيس ترامب زج القدرات العسكرية الاميركية إلى جانب إسرائيل وضد ايران. طبعا يجب ان لا يغيب عن البال ان ترامب كان مشاركا بصورة مباشرة منذ لحظات الإعداد الاسرائيلي لهذا العدوان بطرق مختلفة واضحة، (تهديد ايران بضرورة رفع الراية البيضاء في مسالة المفاوضات حول النووي، والادعاء بانه منح ايران مهلة ستون يوما لفعل ذلك واتهم ايران بانها راوغت حتى انتهت المدة، ثم ساهم في تخدير ايران عندما قال انه لا يؤيد فكرة ان تقوم اسرائيل بضرب ايران، ثم زاد على ذلك بالقول انه لا توجد ضربة وشيكة، ثم جاء الهجوم الاسرائيلي في اليوم التالي، وتبجح نتنياهو بالدور الذي لعبه ترامب في عملية التضليل). الأخطر من ذلك ان الرئيس ترامب، وعندما وجد ان الرد الإيراني كان قويا ومؤثرا ومتصاعدا وقد يضع الكيان المحتل في وضع حرج جدا، قرر الدخول مباشرة في المواجهة واتخذ الخطوات التي سبق ذكرها. ولم يبق سوى الإعلان عن دخول القوات الأمريكية بصورة مباشرة في الأعمال العسكرية، ناهيك عن عمليات تسريع تسليم شحنات الأسلحة والقنابل الفتاكة لإسرائيل لكي تستخدمها في تدمير المراكز المحصنة تحت الارض.
الآن كل الأنظار تتجه إلى خطوة الرئيس الأمريكي القادمة التي قد ينتج عنها زج الولايات المتحدة في مغامرة جديدة لا تحمد عقباها. ومع ذلك، بل وبالتأكيد ان سياسة الترهيب والتهديد التي يستخدمها لن تنفع مع ايران اليوم، وعليه ان يجد حلا وسطا مقبولا في التفاوض حول الاتفاق النووي. ومثلما تراجع عن المواجهة مع اليمن فانه سيضطر لتخفيف اندفاعه ضد ايران. ثم هل ان الضربات الإيرانية الموجعة إذا ما استمرت ستدفع إسرائيل إلى استخدام اسلحة غير تقليدية؟ ام ان الاطراف الخارجية المختلفة ستنجح في تحقيق وقف اطلاق نار سريع سيمكن كل طرف ان يدعي الانتصار الكامل، ويبدو ان ايران وإسرائيل اصبحا على استعداد لفعل ذلك بعد الضربات الموجعة التي تلقاها الطرفان؟
ومهما كانت النتائج فان الكيان المحتل قد تلقى ضربات لن ينساها، وشهد ظروفا وأوضاعا وتدميرا لم يكن يتصور انه سيشهدها، وانه تجرع ولأول مرة من نفس الكاس الذي كان يرغم من يتحداه ان يتجرعه. وان نتائج وانعكاسات ما حدث في الايام الماضية ستتوالى بعد ان تسكت المدافع. من ناحيتها فان ايران التي اعتقدت انها اصبحت سيدة المنطقة، خاصة بعد احتلال العراق، وانها تستطيع ان تمتلك قدرات لم يُسمح لدول اخرى في المنطقة بامتلاكها، ستكون مقبلة على تحولات كبيرة قد لا يستطيع النظام الحالي التماشي معها. وانها ستكون محظوظة إذا ما تجنبت هزة داخلية لا تعرف نتائجها. الخوف كل الخوف الان بالنسبة للامة العربية، التي لم تستطع لحد هذه اللحظة ان تقرر ما تريد. فالأيام القادمة ستجعل نتنياهو، وبدعم من الولايات المتحدة والغرب، يتملكه شعور طاغ بانه قد انتصر ونجح في بناء شرق اوسط جديد ستكون إسرائيل على رأسه، وهذا الأمر إذا ما حصل فان الامة العربية ستدخل مرحلة سبات (هذه اخف كلمة يمكن ان تستخدم حتى لا يغضب البعض) وحده الله تعالى يعلم متى سيتمكن من الخروج منها. بصيص الامل الوحيد الذي قد يُفشِل كل مخططات نتنياهو والولايات المتحدة هو استمرار المقاومة في غزة والضفة واليمن.
هذا تحليل مبسط وشخصي وسريع لما حدث ويحدث واتمنى ان لا يُفهم على انه محاولة للترويج لأفكار متشائمة او سوداوية.
كاتب واكاديمي عراقي