الوثيقة | مشاهدة الموضوع - العرب والأتراك… العيش في الخوف القديم : سامح المحاريق
تغيير حجم الخط     

العرب والأتراك… العيش في الخوف القديم : سامح المحاريق

مشاركة » الجمعة يوليو 31, 2020 10:04 am

9.jpg
 
كنت ومعي كثيرون من أبناء جيلي الذي تفتح وعيه السياسي في التسعينيات من القرن الماضي، من المعجبين بشدة بجمال حمدان صاحب الكتاب الشهير «شخصية مصر» حتى إنني اتجهت لتبني آرائه بطريقة آلية، وحاولت تجاهل ما يناقضها، ومع إنني أحمل كثيراً من الاحترام لمجهوده الفكري ونموذجه الشخصي، فإن التعامل مع أفكاره أصبح يتطلب كثيراً من الحذر، خاصة عندما يجنح إلى الشوفينية.
يمكن أن نتخذ موقفاً سلبياً من الجارة تركيا، والموقف السلبي يجد كثيراً مما يعززه من دلائل، ولا يتعلق من حيث المبدأ بهوية تركيا السياسية، علمانية أم إسلامية، فالأصل هو تزاحم بين كتل سكانية، وجدت نفسها في كيانات سياسية على ثروات الجغرافيا. وبين العرب والأتراك يوجد العديد من الشعوب التي تحمل داخلها أساطيرها وخيالاتها الخاصة، بعضها ما زال متمسكاً بما يحمله مثل الأكراد والتركمان، وآخرون، تلاشت في زحمة الصراع والهجرات والدعايات هويتهم الوطنية الذاتية، وأصبحوا ينادون بالعروبة، أو القومية التركية، مع أنهم قدموا أساساً من مواقع أخرى، وفي مختبر عظيم لهذه الهجرات الكبرى والفوضى السكانية من الباحثين عن لقمة العيش، أو المجندين المستقدمين لحروب التوسع أو الدفاع، تدور قصة الصراع الجوهري بين العرب والأتراك، ففي هذه المنطقة تتابعت ثلاث امبراطوريات عالمية بمقاييس عصرها، الأموية والعباسية والعثمانية.
ما الذي يقوله حمدان عن تركيا، وما الذي نبشته المواقع العربية من كتاباته، لنقتبس بعضاً من الأوصاف مثل «قمة الضياع الحضاري والجغرافي» و»الدولة التي تذكر بالغراب يقلد مشية الطاووس» و»النقيض المباشر لمصر ذات التاريخ العريق والأصالة الذاتية» و»قوة شيطانية مرتحلة» و»طفيلية حضارية خلاسية» ومع كل ما قاله حمدان ويفيض بالتعصب، فإنه يمكن القول بصحة ما وصف به مصر، وضلال أوصافه لتركيا، التي يمكن أن توصف بأنها أمة طارئة على المنطقة، وذلك لا يعيب، فالأمم في شرق أوروبا وبعض مناطقها الوسطى طارئة أيضاً، تشكلت من قبائل شمال أوروبا البربرية، وجدت نفسها عاجزة عن استكمال النموذج الامبراطوري الروماني، فلجأت إلى نظام الإمارات الصغيرة، التي أسست لنظام إقطاعي أدنى كثيراً من الناحية الحضارية من الإمبراطورية الرومانية.
هذه الدويلات والإقطاعيات تطورت لتصبح دولاً كبيرة مثل ألمانيا والنمسا، ويوجد جيوب للعصر القديم في أوروبا مثل لوكسمبورغ وليشتنشتاين، ومع ذلك، التحقت بالنمط الأوروبي الأوسع، وعند تجاوز من هو الطارئ ومن هو الأصيل تغيرت أوروبا وأصبح ممكناً الحديث عن الاتحاد الأوروبي، الذي يبدو على الرغم من جميع الإحباطات والمشاكل الوجودية، أنه يشكل أفضل منظومة إقليمية موجودة في العالم، بل يظهر أن الحديث عن انهياره، الذي تصاعد خلال العقد الأخير، ووصل إلى الذروة مع أزمة كورونا يقف على كثير من الشعبوية والانفعالية، ولا يشكل تهديداً وجودياً لفكرة الاتحاد الذي تمكن من لملمة أوراقه.
لنترك أوروبا في حالها، ولنعد لتركيا التي تظهر تناقضاً كبيراً، فالعرق التركي الذي قدم من أواسط آسيا، وإن كان يضع فكرة تركيا الثقافية، إلا أن تأثيره على الواقع التركي آخذ في التراجع والانحسار، وهو شكل ثقافي أكثر مما هو واقع على الأرض، فالأتراك الذين يصفهم عزيز نيسين أحد أدباء تركيا الكبار بأصحاب القامة القصيرة لكثرة إقامتهم على ظهور الخيل، لم يعودوا الكتلة المؤثرة، وبمنطق نيسين فإن أردوغان نفسه ليس تركياً وفق المطالعة العرقية البسيطة، ولعل أسرته من رعايا الإمبراطورية العثمانية، كما لم يكن الخميني إيرانياً أو فارسياً، فما يقدم عنه أنه من أسرة تعود إلى الإمام موسى الكاظم الهاشمي العربي.
في بحثه عن هوية تركية خاصة وجديدة، تستطيع أن تتجاوز تناقضات ما بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، وأن تتجاوز تزاحم الأعراق والأساطير على الأرض، التي بقيت لتركيا الحديثة من ميراث الإمبراطورية، انطلق أردوغان وتياره بشكل عام إلى إحلال الهوية الإسلامية مكان العلمانية في تركيا، التي كانت تعني في مرحلة ما أن تبقى تركيا سلباً للعسكرة، التي لا يمكن أن تدعم التنمية، وتفضل أن يبقى الجميع في مساحة الخوف، أو أن تتحول إلى مجرد صراع متعدد، ولكن توزع المشروع التركي بين تيارين، الأول هو صفر مشاكل مع الجيران، خاصة مع المشاريع التي اختلفت مع الأتراك على الميراث العثماني في الدول العربية وإيران، والثاني هو استعادة الشرط العثماني وتحشيد الأتراك تحت حلم توسعي.

عند تجاوز من هو الطارئ ومن هو الأصيل تغيرت أوروبا وأصبح ممكناً الحديث عن الاتحاد الأوروبي

لنعترف بشيء مهم للغاية، أردوغان عابر في الوجود التركي، كما الخميني وعبد الناصر، ففي النهاية تتغير القيادات السياسية، وتعود مواقع التمركز من جديد، ولكن المشكلة أن ثلاث حضارات وضعت في مواجهة غير عادلة وصعبة وحرجة، لتبقي منطقة المشرق بمعناه الأوسع، ومعناه المناقض بالضرورة للشرق الأوسط، تحت طائلة الصراع والتطاحن الدائم، فتركيا العلمانية لم تكن صديقة للعرب كما هي تركيا الأردوغانية، والأمر نفسه بالنسبة لإيران الملالي، التي لم تختلف عن ايران الشاهنشاهية، والعرب يبقون مصرين على أصالة تقوم على شيء من التعسف، فينكرون ما هو كردي أو أمازيغي أو نوبي أو سرياني، وفي النهاية لا يمكن سوى التراشق بين مجموعة من المفكرين العصابيين، الذين يحتلون الفضائيات والصحف ومواقع التواصل، للاستمرار في استهلاك هذه المنطقة في مشاغلة مستمرة تحول دون تقدمها أو دخولها إلى المعاصرة، بما يليق بتاريخها الحضاري وطاقاتها البشرية الكبيرة، فالصراع هو في الماضي، ومن أجل الماضي وعلى الماضي، أما المستقبل فلا يشكل سوى محاولة استعادة للماضي، العرب في حلمهم الأموي، والأتراك في ضلالهم العثماني، والإيرانيون يحاولون انتشال قورش وداريوس من التاريخ، فهذه هي الوعود المستقبلية الضمنية وأحياناً المعلنة للأسف.
كاتب أردني
العناوين الاكثر قراءة









 

العودة إلى المقالات

cron