الوثيقة | مشاهدة الموضوع - ثورة العشرين: جدل عراقي متجدد : صادق الطائي
تغيير حجم الخط     

ثورة العشرين: جدل عراقي متجدد : صادق الطائي

مشاركة » الاثنين يوليو 06, 2020 8:35 am

3.jpg
 
على الرغم من محورية الحدث وأهميته في التاريخ العراقي المعاصر، إلا أن ما حصل في حزيران/يونيو 1920 مازال يمثل موضوعا إشكاليا تختلف فيه وجهات النظر، ومن ثم تقييم الحدث، وبناء على ذلك يختلف التعاطي مع نتائجه سلبا، أو إيجابا. ما بات يعرف في السردية العراقية الرسمية باسم (ثورة العشرين) تم تناولها في العديد من الكتب والدراسات الأكاديمية والمقالات والبحوث، لكن جزءا كبيرا من التعاطي مع هذا الحدث بقي أسير التناول العاطفي، الذي أسبغ الكثير من التبجيل على الحدث، وأحاطه بنوع من القدسية جعلت منه تابوها يمنع مسه أو تفكيك معطياته، للوصول إلى فهم تأريخي موضوعي لما حدث.
أما في وقتنا الحالي، فإن الانفتاح الكبير، والسهولة الطاغية التي وفرتها منصات التواصل الاجتماعي، فتحت الباب على الغارب، وبات بإمكان الآلاف، أو ربما ملايين العراقيين التعليق سلبا أو إيجابا على ما حدث، لكن الواضح أن الكثير من هذه الكتابات يشوبها عدم الدقة، وعدم بذل الجهد لتحري المعلومة الصحيحة، والنتيجة استسهال في إطلاق الأحكام، وسلبية حد الشتيمة، أو إيجابية حد التبجيل.
ويبدو أن الجدل هذا العام كان أكثر سخونة، ربما بسبب الذكرى المئوية للحدث، ومع ذلك، وبعد مرور مئة عام، مازال الكتّاب والمدونون مختلفون حتى في اختيار اسم أو توصيف يطلق على أحداث حزيران 1920. ويذكر المؤرخ العراقي كمال مظهر أحمد في كتابه «ثورة العشرين في الاستشراق السوفييتي» إلى نقطة مهمة، وهي تشوش المصطلح السياسي في التعاطي مع الحدث التاريخي، إذ يقول «الارتباك واضح في استخدام المصطلحات التأريخية، بأسلوب غير علمي في معظم دراساتنا»، ثم يعرج على الأحداث بقوله «إن من يتصفح المؤلفات العراقية مثلا يستطيع أن يعد عشرات (الثورات) التي شهدتها البلاد في غضون أقل من سبعة عقود من تأريخه الحديث، فكل انتفاضة جماهيرية، وكل خروج على الفساد، وكل تمرد عشائري، وكل حركة عسكرية، هي (ثورة) حسب تعبير الأغلبية الساحقة من مؤرخينا، بينما لكل من هذه الأحداث مفهومه الخاص تبعا لطابع الحدث وأهدافه والقوى العاملة فيه».
يمكننا أن نصل من ذلك إلى نقطة مفادها، أن الثورات هي تلك الحركات التي تستهدف وتؤدي بالنتيجة إلى حدوث تغيير في المجتمع، كأن تحول العلاقات أو النسق الاقتصادي، من الإقطاع إلى البورجوازية، مثلما حصل في الثورة الفرنسية، أو تغيير العلاقات الاقتصادية الرأسمالية إلى علاقات اشتراكية مثل ثورة أكتوبر/تشرين الأول الروسية، أما ما حصل في العراق عام 1920، فهي بالنسبة للبريطانيين، تمرد عشائري، بينما يراها الباحثون السوفييت، انتفاضة شعبية تحررية، موجهة ضد مستعبد أجنبي، أحدثت تغييرات سياسية لاحقة، إلا إنها لم تصل حد الثورة، لكنها لا تقل عنها أهمية، وربما شكّلت مقدمة لتغيرات مهمة لاحقة.

بعد مرور مئة عام، مازال الكتّاب والمدونون مختلفون في اختيار اسم أو توصيف يطلق على أحداث حزيران 1920

ونجد البعض يسقط أحكامه، المؤسسة على وجهة نظر معاصرة على الأوضاع التأريخية قبل قرن من الزمان، أي يضع معيار اليوم على خريطة علاقات عمرها 100 عام، ويريد أن يخرج بأحكام ونتائج صحيحة، وهذا بالتأكيد إجحاف وعدم دراية، فالحركة الشعبية عام 1920 كانت تتسم في الكثير من تفاصيلها بالعفوية، والمشاركون فيها كانوا بسطاء وأميين في الغالب، يقودهم قادة المجتمع التقليديين من شيوخ القبائل ورجال الدين، وبعض أفندية المدن المتكبرين، الذين لم يكونوا قبل ذلك يتكلمون مع القروي أو البدوي احتقارا له. لكن من جانب آخر، هنالك مبالغة في الحدث، وتصويره على إنه حدث عراقي، وطني، قومي، عروبي مناهض للاستعمار، وقد اشترك فيه كل العراقيين. وهذا الأمر فيه شطط من الجانب الآخر، إذ أن بؤرة التوتر التي انطلقت منها انتفاضة القبائل كانت حوض الفرات، إذ انطلقت من وسطه وجنوبه شرارة التحرك، وتحديدا من الفرات الأوسط، من قبائل الديوانية والمناطق المحيطة بها، وباركتها بعض المرجعيات الدينية في النجف وكربلاء والكاظمية، ثم بعد حولي شهر ونصف الشهر، أي في منتصف شهر أغسطس/آب التحقت بالانتفاضة قبائل أعالي الفرات من الفلوجة إلى دير الزور، وشمل ذلك قبائل شمر ودليم ببطونها المختلفة، أما بغداد فكانت تلعب دور المحور المثقف من الحراك، عبر السعي لبلورة مطالب المنتفضين أمام الإدارة البريطانية، إذ شهد جامع الحيدرخانة، الذي مثّل مركز الحراك في بغداد، الكثير من التجمعات الخطابية، والفعاليات الشعبية الغاضبة من سياسة البريطانيين، والمؤيدة لانتفاضة القبائل. كذلك من الضروري الإشارة وبشفافية، إلى الأوضاع الاقتصادية والسياسية المختلفة، التي كانت تعيشها مناطق العراق المختلفة، إذ كانت مدن حوض دجلة مستقرة نسبيا، وكانت الملاحة النهرية تعمل تجاريا في نهر دجلة بشكل منتظم، وكانت الشركة الأهم في الملاحة النهرية هي شركة بيت لنج لملاكها الإنكليز، ما يعني أن الوضع الاقتصادي في مدن حوض دجلة كان مستقرا، كما أن الشيوخ القبليين لحوض دجلة كانوا قد تحولوا مبكرا إلى اقطاعيين ملاك لأراضي قبائلهم في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، بعد تنفيذ قانون الطابو في عهد الوالي مدحت باشا، ومن ثم قاموا بتحويل أبناء قبائلهم إلى وضع أشبه بقنانة الأرض المعروفة في الإقطاع الأوروبي، ما جعلهم يحكمون قبضتهم على حمولاتهم القبلية، ومنعها من الانتفاضة، بينما كانت قبائل حوض الفرات ما تزال في طور أكثر بداوة، ولم تعرف التحول الإقطاعي، والنتيجة اشتعال الانتفاضة في حوض الفرات، وهدوء في حوض دجلة، نتيجة علاقات شيوخ عشائره الحسنة مع البريطانيين.
كذلك كان حال البصرة المدينة الأهم حينها، والمنافسة للعاصمة بغداد، لأن البصرة حينها كانت ميناء شمال الخليج الأهم، والأكثر ثراء، لذلك شهدت مدينة البصرة ما عرف تأريخيا بالحركة اللامركزية، أو الحركة البصرية الانفصالية، التي تمحورت حول إقامة نوع من الاتحاد الكونفدرالي بين البصرة والعراق. وهنالك وثيقة تأريخية مهمة في هذا الصدد، هي المذكرة التي وقعها وجهاء وشيوخ البصرة، والتي قدمت إلى السير برسي كوكس المندوب السامي البريطاني بعد انتفاضة 1920، وقد أبدت النخبة الارستقراطرية البصرية تخوفها من الاتحاد بين البصرة الثرية مع بقية مدن العراق الفقيرة، وقد أشارت المذكرة إلى الفروق الحضارية بين مدن العراق المتخلفة حينها، والبصرة بصفتها ميناء منفتحا على العالم، ويضم بين سكانه جالية كبيرة من الأجانب، كما ذكَر طلب البصريين السير برسي كوكس بان مدينتهم لم تشترك في أعمال (الشغب والتمرد)، بحسب وصف المذكرة لما عرف بـ»ثورة العشرين»، وإنهم كانوا مطيعين للإدارة البريطانية وتعليماتها، وبالتالي فإن من حقهم أن يحظوا بمعاملة مختلفة من البريطانيين تميزهم عن بقية مدن العراق.
أما وضع كردستان العراق، فلم يكن مختلفا كثيرا عن وضع البصرة، بل يمكننا القول إنه كان أقوى وأكثر تماسكا، وأكثر وضوحا في مطالبه القائمة على الاستقلال، المستند إلى الخصوصية القومية، وعلى وجود قيادة كارزمية متمثلة بالشيخ محمود الحفيد البرزنجي، الذي كان يقدم نفسه على أنه ملك كردستان، وكان يطالب البريطانيين بتطبيق حق تقرير المصير، الذي تضمنه خطاب الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون في مؤتمر الصلح في باريس. وكانت قضية تبعية ولاية الموصل تقلق البريطانيين، إذ احتلها البريطانيون بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918،عندما انسحب منها الجيش العثماني من دون قتال، ما يعني أن تحكيما دوليا مستقبليا قد يعيدها للتبعية التركية، بالإضافة إلى طبيعة إمارة محمود الحفيد في السليمانية، التي كانت تتمتع بنوع من الحكم الذاتي، كل تلك الأسباب جعلت بريطانيا تعامل الكرد بنوع من الخصوصية، ما دفع باتجاه عدم مشاركة العديد من مناطق كردستان في انتفاضة 1920.
وتبقى أهمية ما حققته انتفاضة 1920 العراقية من حسم الصراع بين مدرستي السياسة البريطانية، مدرسة الهند البريطانية، ومدرسة القاهرة البريطانية، إذ كانت الأولى ترى مصلحة بريطانيا في ادارة دول الشرق الأوسط إدارة عسكرية مباشرة، أو إلحاق هذه المناطق بحكومة نائب الملك في الهند. بينما كانت مدرسة القاهرة ترى أن الأفضل للامبراطورية البريطانية المنهكة من الحرب، والمفلسة نتيجة ما تكبدته من خسائر، إقامة حكومات محلية وربطها ببريطانيا، عبر نظام الانتداب أولا، ومن ثم المعاهدات التي تضمن المصالح البريطانية. وقد فازت هذه المدرسة في الصراع، وتم الاتفاق مع الأمير عبد الله بن الحسين على تسنم عرش شرق الأردن، والأمير فيصل بن الحسين على تسنم عرش العراق بعد سنة واحدة فقط من انتفاضة 1920، لتولد تغيرات جيوسياسية مهمة في منطقة الشرق الاوسط من رحم هذه الانتفاضة.
العناوين الاكثر قراءة









 

العودة إلى المقالات

cron