بغداد ـ «القدس العربي»: تفاقمت ظاهرة تلوث العاصمة العراقية بغداد بعد وصول درجات التلوث إلى مستويات غير مسبوقة من التدهور جعلتها في مقدمة مدن العالم في تلوث الهواء وفق المقاييس الدولية، في وقت واصلت السلطات التعامل مع الظاهرة بأساليب روتينية غير فعالة ولا تتناسب مع خطورة النتائج المترتبة على هذه الظاهرة.
وعبّر العراقيون من خلال مواقع التواصل ووسائل الإعلام، عن استيائهم من تكرار ظاهرة تلوث الهواء، داعين الحكومة إلى التحرك الجاد لمواجهة مخاطر التلوث وتشديد الرقابة البيئية، مع تحديد الأسباب الحقيقية لتزايد تلوث الهواء وعودة الروائح غير الطبيعية في عدد من أحياء العاصمة.
وفي أعقاب تصاعد التحذيرات من الارتفاع غير المسبوق لمستوى التلوث في بغداد، وجّه رئيس مجلس الوزراء محمد السوداني، بزيادة نشاط فريق معالجة تلوث الهواء، ومتابعة المواقع الأساسية للطمر والنفايات، واتخاذ إجراءات قانونية فعالة للحدّ من خطر التلوث، كما أوعز السوداني لوزارة البيئة وأمانة بغداد والمديريات المسؤولة مضاعفة جهودها وتوفير الاحتياجات القانونية والإدارية والفنية والمالية لإيجاد الحلول والمعالجات، مؤكداً على تفعيل مشاريع الاستثمارات المعنية بالطمر وتدوير النفايات، وتفعيل الخطط الموضوعة لمعالجة تلوت الهواء ومياه الأنهار.
وفي السياق ذاته، أعلنت هيئة النزاهة الاتحادية (هيئة حكومية)، المباشرة بإعداد تقرير بشأن التلوّث الهوائي والكتلة الدخانية التي غطّت سماء بغداد مؤخراً.
وقالت الهيئة في بيان، «ألّفت دائرة الوقاية في الهيئة، فريقاً مختصاً يتولى دراسة الأسباب المؤدية لانبعاث الأبخرة والدخان والغازات والروائح الضارة التي تسببت بحالات اختناق وبأمراض تنفسية لأهالي بغداد، وذلك في إطار مهامه في متابعة الأداء المؤسسي ومعالجة مظاهر الخلل التي تمس صحة المواطنين وسلامة البيئة». وذكرت الهيئة، أن «فريق العمل باشر بزيارة عدد من الجهات ذات العلاقة، شملت: وزارة البيئة، وقيادة عمليات بغداد، ومديرية شرطة البيئة».
وقال النائب الأول لرئيس هيئة النزاهة مظهر الجبوري، إن «الربط بين التغيرات البيئية وعمل الهيئة جاء لوجود مؤشرات على أسباب تتعلق بالفساد الإداري والمالي»، كاشفاً عن أن «وزارة البيئة حركت أكثر من 300 دعوى جزائية تتعلق بالتجاوزات»، وتسعى الهيئة حالياً لمعالجة هذه القضايا بخصوصية عالية وتسليط الضوء عليها، لترسيخ مفهوم أن الإضرار بالبيئة هو ممارسة فاسدة تخضع للمساءلة القانونية الصارمة».
رصد تصاعد التلوث
مرصد العراق الأخضر (منظمة غير حكومية)، كشف من جانبه أن العاصمة العراقية شهدت موجة تلوث استثنائية وتشكل غطاء سحابي كثيف أسهم في زيادة تركز الملوثات قرب سطح الأرض، إضافة إلى عودة رائحة الكبريت بشكل ملحوظ، في مناطق متفرقة من العاصمة.
وتشير القياسات الحديثة إلى ارتفاع نسب غاز ثاني أوكسيد النيتروجين وثاني أوكسيد الكبريت وهما من أكثر الملوثات ارتباطا بتدهور وظائف الجهاز التنفسي وارتفاع معدلات الأمراض المزمنة. كما سجلت قفزة حادة في مؤشر جودة الهواء وصلت إلى 380 نقطة، وهو مستوى يعكس وضعا بيئيا عالي الخطورة تهيمن عليه الجسيمات الدقيقة.
وتؤكد البيانات أن متوسط تركيز هذه الجسيمات خلال عام 2024 بلغ 40.5 ميكروغرام لكل متر مكعب، وهو ما يتجاوز الحد الإرشادي العالمي بنحو ثمانية أضعاف، ما يعزز المخاوف من استمرار تفاقم التلوث وتوسعه نحو المحافظات القريبة من العاصمة في ظل ضعف حركة الرياح.
وحذر المرصد من «إن التلوث الذي حصل، كان الأوسع على نطاق الانتشار والأكثر تلوثاً خلال عام كامل لوجود مركبات غالبها سامة نتيجة عمليات حرق النفايات والتي لم يوضع أي حد لها حتى اليوم»، وتابع أن هناك غازات كثنائي أوكسيد الكبريت انتشرت وتسببت بحالات اختناق لدى المواطنين نقلوا على إثرها إلى المستشفيات.
وانتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي صور وأفلام أظهرت انخفاض مستوى الرؤية في العاصمة. مع دعوات لتجنب الخروج الطويل لمرضى الربو وكبار السن، وإغلاق النوافذ في الفترات التي يشتد فيها تركز الملوثات.
وعزز قلق العراقيين، ورود مؤشرات تدهور البيئة في البلد من منظمات ومراكز دولية متخصصة بالبيئة.
فقد أفاد تقرير أمريكي، بأن العراق جاء بالمرتبة قبل الأخيرة في ترتيب الدول بالهواء النقي، حيث ذكرت مجلة «سيو وورلد» الأمريكية في تقرير لها، أن تباينات كبيرة في مستويات تلوث الهواء بين البلدان حيث يؤدي ذلك إلى تغير المناخ وتفاقم المشكلة. وأشارت المجلة إلى ان تشاد لديها أسوأ نوعية هواء، حيث سجلت 89.7 ميكروغرام لكل متر مكعب، تلاها العراق حيث سجل 80.1 ميكروغرام لكل متر مكعب ومن ثم باكستان، والبحرين، وبنغلاديش، على التوالي.
وذكر تقرير آخر لشركة آي كيو اير المتخصصة بقياس مستوى تلوث الهواء، أن العراق جاء في المرتبة الأولى عربيا في مؤشرات تلوث الهواء خلال العام الماضي، فيما احتل المرتبة السادسة عالميا. وحسب تقرير الشركة، بلغ معدل تركيز الجزيئات الملوثة 43.8 ميكروغرام لكل متر مربع بالنسبة للعراق.
إجراءات الحكومة
وإزاء تفاقم المشكلة، عقدت المؤسسات الحكومية، سلسلة اجتماعات لبحث كيفية مواجهة ورصد ازدياد مستويات التلوث في بغداد، وأعلنت عن بعض الإجراءات.
وفيما أعلنت قيادة عمليات بغداد، في بيان «غلق جميع المداخل إلى معسكر الرشيد» السابق جنوب بغداد، حيث تجري منذ سنوات، عمليات حرق عشوائية للنفايات، مبينة أن ذلك «ضمن الإجراءات المتخذة لتقليل التلوث البيئي الحاصل، نتيجة انبعاث الغازات والروائح المرافقة لعمليات الحرق العشوائي المخالفة للضوابط، فقد أعلن رئيس مجلس محافظة بغداد عمار الحمداني، مناقشة منح عطل رسمية في العاصمة بغداد، جراء تسجيل نسب عالية من التلوّث في الهواء.
وقال الحمداني في تدوينة على صفحته الشخصية على «فيسبوك»، «تعدد الإصابات بحالات ضيق التنفس، وتسجيل نسب عالية في تلوّث هواء بغداد، يستدعينا كحكومة بغداد المحلية أن نناقش وبشكل فوري منح عطلة رسمية؛ لتفادي تفاقم الأحوال جراء وجود معامل لا تخضع للضوابط وفتح ورش داخل الأحياء السكنية».
أما وزارة البيئة، فإنها أعلنت عن إجراء مسح شمل مئات المنشآت الصناعية المخالفة للشروط البيئية في مناطق مختلفة من بغداد.
وقال مدير بيئة بغداد صادق حاتم في تصريحات للصحافة، إن «إحصائية وزارة البيئة للأنشطة المخالفة تتضمن مسحاً لـ 500 معمل ضمن فئة المنشآت الصناعية الكبيرة والمتوسطة، بالإضافة إلى إغلاق 177 معملاً غير مرخص لصهر المعادن تتسبب بالتلوث في بغداد، مع صدور توجيهات لإغلاق معامل الطابوق غير المرخصة وأماكن حرق النفايات ومعامل الأسفلت وتكرير الزيوت». وأضاف أن «الدراسات المعدّة حول الواقع البيئي في العاصمة كشفت أن السبب في تلوث الهواء ناتج عن مركبات تدخل ضمن الغازات المنبعثة من تشغيل المولدات الكهربائية (الأهلية) واستخدام الوقود غير النظيف، بالإضافة إلى المصانع غير المرخصة وعمليات الحرق العشوائي للنفايات».
أسباب ازدياد التلوث
ومع تعدد أنواع وأسباب ارتفاع التلوث في هواء بغداد، يقر وزير البيئة العراقي هلو العسكري، «أن ارتفاع معدلات التلوث في بغداد؛ نتيجة تراكمية لإهمال بيئي امتد لعقود طويلة»، بينما أشار إلى أن أحد أبرز مكامن الخلل في إطار ارتفاع معدلات التلوّث، هو أنشطة مؤسسات القطاع العام مثل: وزارة النفط، وزارة الكهرباء، وزارة الصناعة، أمانة بغداد، والدوائر البلدية.
وذكر بيان للوزارة، أنها «اعتمدت مواقف وقرارات للحد من تكرار تلوث الهواء في بغداد، ومنها صدور قرار أمني مهم يقضي بغلق منافذ ومداخل معسكر الرشيد بالكامل، بهدف وضع حدّ للتجاوزات التي يقوم بها بعض الأفراد عبر حرق مئات الأطنان من النفايات المتراكمة، وهي مخالفات تحدث منذ سنوات طويلة، مما يرفع مستويات تلوث الهواء في العاصمة بشكل خطير».
ووفقا لوزارة التخطيط سنة 2022 فأن هناك فقط 74 موقع طمر صحي حاصل على الموافقة البيئية في عموم العراق ماعدا إقليم كردستان، مقابل 146 موقع طمر غير حاصل على تلك الموافقة. فيما يؤكد مدير إعلام وزارة البيئة أمير علي الحسون، بأن الغازات التي تنبعث من محارق النفايات الطبية بنحو غير سليم «تُعدُ واحدة من أهم وأخطر ملوثات الهواء في العراق».
ويؤكد عراقيون في بغداد لصحيفة «القدس العربي»، ان هناك مسببات أخرى للتلوث اهمها وجود أكثر من ثلاثة ملايين عجلة تخنق شوارع بغداد الضيقة، وان نسبة كبيرة منها قديمة ولا تخضع لفحص معايير السلامة. وان هذه المركبات تبعث كميات هائلة من غازات العادم مثل ثاني أكسيد النيتروجين وأول أكسيد الكربون. فيما أشاروا إلى وجود عشرات الآلاف من مولدات الكهرباء الخاصة التي تعمل بالديزل وتبث غازات سامة في الجو، والمنتشرة في جميع احياء المدن العراقية نتيجة ضعف الكهرباء الحكومية.
وحدد خبراء البيئة أيضا أسبابا أخرى لتلوث الهواء في العراق، منها انتشار مخلفات عمليات استخراج النفط وحرق الغاز، بالإضافة إلى انتشار المعامل وسط وقرب المدن مثل معامل الطابوق البدائية في ضوء غياب الرقابة الفعالة.
والحقيقة المرة التي لا يختلف عليها البغداديون، ان تلوث مدينتهم، لا يقتصر على الهواء فحسب، بل يمتد إلى جوانب أخرى كالمياه والتربة.
ويرى الخبراء ان البيئة في العراق، هي إحدى ضحايا الإهمال والفشل الإداري الحكومي وقلة الوعي البيئي لدى المواطنين، وسط قناعة عامة بان الإجراءات الحكومية إزاء أزمة تلوث العاصمة والمدن العراقية لا تتناسب مع حجم وخطورة الظاهرة التي تزداد تدهورا يوما بعد يوم، مما جعل بغداد غير قابلة للعيش وفق التقييمات المحلية والدولية.