بغداد / المدى
عاد ملف الرواتب والامتيازات العليا في الدولة العراقية إلى الواجهة بقوة، بعد أرقام وُصفت بـ«الصادمة» كشفت حجم الإنفاق السنوي على الدرجات الخاصة، في وقت تواجه فيه المالية العامة ضغوطًا متزايدة بفعل تقلبات أسعار النفط واتساع النفقات التشغيلية.
وبين دعوات خبراء الاقتصاد إلى مراجعة شاملة لسلم الرواتب، وتأكيدات حكومية بعدم وجود أزمة سيولة آنية، يتشكل مشهد مالي يضع الإصلاح أمام اختبار حقيقي طال انتظاره، وان كان ذلك يجري في وقت اصبحت فيه الحكومة، حكومة تصريف اعمال، منتهية الولاية!
يقول الخبير الاقتصادي نبيل المرسومي إن عدد الدرجات الخاصة في العراق يبلغ 6087 درجة، موزعة بين الدرجة العليا «أ» بعدد 768 درجة، والدرجة العليا «ب» بعدد 5319 درجة. ووفق تقديراته، تصل الرواتب السنوية التقريبية المدفوعة لهذه الفئة إلى نحو 420 مليار دينار، دون احتساب الامتيازات الأخرى.
ويؤكد المرسومي أن مراجعة رواتب الدرجات الخاصة تمثل خطوة ضرورية لتقليص النفقات العامة وإعادة التوازن في سلم الرواتب، لكنها لا تكفي وحدها، مشددًا على أن الامتيازات المرافقة من حوافز وأرباح ونثريات وحمايات وخدمات تشكل في مجموعها أضعاف الرواتب الأساسية، ما يجعل هذا الملف أحد أكثر أبواب الإنفاق استنزافًا للموازنة.
في المقابل، يؤكد المستشار المالي لرئيس الوزراء، مظهر محمد صالح، عدم وجود أزمة سيولة حادة على المدى القصير، مشيرًا إلى أن الحكومة تمضي بإعداد موازنة 2026 ضمن الإطار المتوسط الأجل للسياسة المالية.
ويقول صالح إن الحكومات تلجأ عادة إلى تقليص الإنفاق عند مواجهة ضغوط ناتجة عن تقلب الإيرادات أو ارتفاع الالتزامات الجارية، لاسيما في الاقتصادات الريعية المعتمدة على مورد واحد كالنفط. ويضيف أن استمرار الإيرادات النفطية ضمن مستوياتها الحالية، إلى جانب التنسيق بين السياستين المالية والنقدية، يقلل من احتمالات حدوث أزمة سيولة آنية، لكنه يحذر في الوقت نفسه من أن الضغوط على الإنفاق التشغيلي قد تؤدي إلى اتساع نسبي في عجز موازنة 2026 ما لم تُضبط النفقات وتُعزز الإيرادات غير النفطية.
في هذا السياق، تمضي حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني المنتهية ولايتها، باتجاه فتح ملف الرواتب والامتيازات العليا، في خطوة وُصفت بالجريئة وغير المسبوقة. وترأس السوداني اجتماعًا استثنائيًا للمجلس الوزاري للاقتصاد، جرى خلاله اتخاذ قرارات تهدف إلى ترشيد النفقات وتعظيم الموارد.
وشملت القرارات توجيهًا بمراجعة رواتب ومخصصات الرئاسات الثلاث، والعمل على مساواة رواتب منتسبي رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس النواب مع منتسبي رئاسة مجلس الوزراء، في محاولة لتقليص الفوارق المالية وتحقيق العدالة الوظيفية. كما وجّه رئيس الوزراء وزارة التخطيط بتحديث تقرير توحيد سلم الرواتب لعموم موظفي الدولة، والأخذ بالتوصيات المقدمة بهذا الشأن.
وضمن إجراءات تقليص الإنفاق، قرر المجلس تخفيض تخصيصات الإيفاد بنسبة 90%، وحصرها بالضرورة القصوى، إلى جانب تخفيض نسب الإشراف والمراقبة للمشاريع الجديدة. وفي إطار إصلاح منظومة الدعم، كُلّف وزير التجارة بمراجعة البطاقة التموينية لضمان وصولها إلى مستحقيها الفعليين.
لم تقتصر القرارات على جانب الإنفاق، بل امتدت إلى تعظيم الإيرادات غير النفطية. إذ وجّه رئيس الوزراء اللجنة الوزارية المختصة بإعادة النظر باحتساب إيرادات إقليم كردستان المودعة بمبلغ مقطوع، وتعزيز العمل بنظام البيان المسبق في هيئة الكمارك بالتنسيق مع البنك المركزي، إلى جانب تشديد جباية الكهرباء واعتماد الأتمتة والدفع الإلكتروني في جميع عمليات التحصيل.
ويرى مظهر محمد صالح أن هذه الخطوات تشكل خارطة طريق واضحة للإصلاح المالي، وتؤكد الانتقال من منطق إدارة الأزمات إلى منطق التخطيط التنموي المستدام، مشددًا على أن التحدي لا يكمن في حجم الإنفاق بحد ذاته، بل في جودته وكفاءته.
وتكشف الأرقام الرسمية أن العراق ينفق نحو 100 تريليون دينار سنويًا على رواتب الموظفين والمتقاعدين، تذهب قرابة 40 تريليون منها للمسؤولين الكبار. كما بلغت موازنة 2024 أكثر من 144 تريليون دينار، بعجز يتجاوز 63 تريليونًا.
ويُقدَّر عدد الدرجات الخاصة بأكثر من 6 آلاف من أصل نحو 4 ملايين موظف، تستحوذ على حصة كبيرة من الرواتب والامتيازات. ويشير خبراء إلى أن عدد الدرجات العليا في العراق يفوق ما هو موجود في دول كبرى مثل بريطانيا والولايات المتحدة، ما يعكس تضخم الهيكل الإداري وتكاليفه.
من جانبه، يرى الخبير المالي عبد الرحمن الشيخلي أن القرارات الأخيرة جاءت استجابة لمعطيات مالية دقيقة، في ظل تسجيل تراجع نسبي في الإيرادات العامة خلال النصف الأول من 2025 بنسبة 6% مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق. ويشير إلى أن الإيرادات النفطية ما تزال تشكل نحو 91% من إجمالي الإيرادات، مقابل 9% فقط من مصادر غير نفطية، ما يبرز هشاشة المالية العامة أمام تقلبات السوق العالمية.
ويؤكد الشيخلي أن إعادة التوازن بين الإنفاق التشغيلي والاستثماري تمثل خطوة أساسية لدعم النمو الاقتصادي المستدام، محذرًا من أن نجاح هذه الإجراءات يتطلب تنفيذًا متوازنًا يضمن استمرار الخدمات والمشاريع، دون تحميل المواطنين أعباء إضافية.
تاريخيًا، لم تُقدم أي حكومة سابقة على تعديل رواتب الرئاسات الثلاث، ليس لغياب القناعة، بل بسبب التعقيدات السياسية والحساسية العالية التي تحيط بالملف. وكان يُنظر إليه بوصفه «خطًا أحمر» يخشى الاقتراب منه، خوفًا من الصدام بين القوى النافذة.