ترجمة/ حامد أحمد
تناول تقرير تحليلي لمعهد الشرق الأوسط للدراسات في واشنطن كيف أن الانتخابات العراقية الأخيرة ستعيد تشكيل موازين القوى وكيف سيكون دورها في حسم المنافسة بين الولايات المتحدة وإيران، فبينما تكثف واشنطن الضغط على تقييد نفوذ الفصائل الموالية لإيران، فإنها لا تريد التصادم معها والحفاظ على مصالحها الاقتصادية في البلد، في حين تسعى طهران إلى الحفاظ على نفوذها وتتقبل حكومة شيعية ليست بالضرورة معادية لواشنطن أو الخليج، لهذا تضغط إيران على بعض الفصائل لإبراز وجه سياسي أكثر من عسكري، في مشهد يوحي بحصول تعايش هش قائم على التوازن بين مصالح طهران وواشنطن في العراق لتقليص مخاطر المواجهة.
وتعود واشنطن مجددًا للضغط بقوة على بغداد لتقليص مساحة عمل شبكات وكلاء إيران، مقرونة بتصنيفات إرهابية جديدة وعقوبات، إضافة إلى خطاب دبلوماسي أكثر حدة يطالب بنزع سلاح الجماعات المسلحة غير الخاضعة لسلطة الدولة العراقية. رسالة الولايات المتحدة واضحة: إن الاستقرار بعد الحرب، والاستثمار الأميركي، والتعاون في مجال الطاقة، والوصول إلى الدولار، كلها أمور مرهونة باستعداد العراق لتقييد أقوى الفصائل الموالية لإيران. لكن هذه الحملة تصطدم بمصالح أميركية تربط واشنطن بالاقتصاد العراقي. ولا تزال عائدات النفط العراقية تمر عبر النظام المالي للاحتياطي الفيدرالي الأميركي — وهو وسيلة ضغط، لكنه أيضًا قناة لا ترغب واشنطن في تحويلها إلى سلاح بشكل يزعزع الحكومة العراقية التي لا تزال الولايات المتحدة بحاجة إليها للتعاون في مكافحة الإرهاب وإدارة شؤون المنطقة. النتيجة هي سياسة تمزج بين التهديدات والحوافز، مع محاولة عدم إرباك أسواق الطاقة العالمية أو الإضرار بالشركات الأميركية العاملة في العراق. وسيزداد هذا التوازن صعوبة مع دخول البرلمان العراقي المقبل في معركة حول الوضع القانوني والعبء المالي للحشد الشعبي — وهو مسرح يتقاطع فيه كل خيط من خيوط المنافسة الأميركية – الإيرانية.
ما الذي تراهن عليه طهران في الانتخابات البرلمانية العراقية؟
بالنسبة لإيران، يمثل العراق عمقًا إستراتيجيًا وملاذًا سياسيًا وشريانًا اقتصاديًا في آن واحد. إن نتائج انتخابات 11 نوفمبر والجهود اللاحقة لتشكيل الحكومة ستقرر من يسيطر في بغداد على مفاصل الميزانية، وتعيينات الأمن الداخلي، واللجان التي قد تُشرعن أو تُقيّد استقلال الحشد الشعبي المدعوم من إيران. كما ستحدد ما إذا كان رئيس الوزراء المنتخب يستطيع التعامل مع واشنطن دون استعداء أحزاب الفصائل.
وأشار التقرير إلى أن طهران ستطالب بحكومة يهيمن عليها التيار الشيعي التقليدي، لكنها ستتسامح بالتأكيد مع رئيس وزراء شيعي يتقارب مع واشنطن وعواصم الخليج أو حتى أنقرة. بل قد تفضل طهران حكومة عراقية صديقة للولايات المتحدة والخليج، لأنها يمكن أن تكون جسرًا بين إيران وأميركا والعالم العربي. ومع ذلك، ستتوقع طهران من بغداد احترام خطوط حمراء تتعلق بعدم نزع سلاح شامل للفصائل، ولا انخراط في سياسات عقوبات أميركية معادية لإيران، ولا السماح للأميركيين أو الإسرائيليين باستخدام الأراضي العراقية لتنفيذ عمليات عسكرية. من هنا، تمتزج رؤية طهران بين الأيديولوجيا والبراغماتية: الحفاظ على الردع وشبكة الحلفاء الإقليميين من جهة، وتوسيع قاعدة الشركاء السياسيين في العراق وتخفيف حضور العناصر الأكثر استفزازًا من جهة أخرى. الهدف المركزي: إبقاء النظام قائمًا من دون الانجرار إلى مواجهة واسعة مع الولايات المتحدة على الأرض العراقية، بينما تتعافى إيران من سلسلة الضربات التي تعرضت لها هي ووكلاؤها منذ 7 أكتوبر 2023.
هل يمكن لواشنطن وطهران التعايش داخل العراق؟
التعايش ممكن لأن الأطراف الثلاثة، بغداد وواشنطن وطهران، بحاجة إليه أكثر مما تعترف، ويكفي لذلك بعض التغطية السياسية. انتهج رئيس الوزراء محمد شياع السوداني نهج الإقناع لا المواجهة مع فصائل الحشد، فخفف إطلاق النار عبر الحدود مع التأكيد على أن الدولة يجب أن تحتكر السلاح. وتريد الولايات المتحدة أن تُدمج تلك الفصائل المسلحة في سلاسل قيادة خاضعة للمساءلة، أو على الأقل أن تُحوَّل إلى كيانات سياسية. أما إيران فتريد الاحتفاظ بخياراتها العسكرية عبر الحدود — لكن دون أن تصبح هذه الخيارات علنية ونشطة بشكل يستجلب ضربات خارجية أو عقوبات أميركية تضيق الخناق على أنابيب الدولار العراقية التي تعتمد عليها طهران.
وقد أنتج هذا “تجربة إيرانية هادئة” داخل العراق: الضغط على فصائل مختارة لتخفيف الطابع العسكري وبناء أحزاب سياسية والتغلغل في الوزارات والمحافظات. إنه ليس تفكيكًا بل تحولًا. وبعض الفصائل — مثل بدر — تستطيع لبس عباءتين: وجه سياسي مؤسسي، وفصائل تذوب داخل مؤسسات الدولة.
وإذا حصل الانهيار، تتوقع إيران أن الولايات المتحدة لن تستمر بالمجاملة. فهي تتوقع أن واشنطن تتحمل دمج الفصائل تحت مظلة وزارة الدفاع فقط كلما بقيت هذه الفصائل صامتة. لكن عندما تتدخل في عمليات أميركية أو إسرائيلية — عبر مضايقة الأصول الأميركية أو محاولة توسيع القتال — فإن واشنطن سترد بطريقة محدودة لكنها قاسية، قد تكون بضربات دقيقة، أو تصنيفات إرهابية جديدة، أو قيود أشد على حركة الدولار، مما يدفع ذلك إيران اليوم إلى خلق طبقة سياسية مسالمة وإبقاء الردع العسكري بصفة الاحتياط. قد تقبل الولايات المتحدة ومعها كتل سنية وكردية بفكرة دمج شكلي للحشد تحت إطار وزارة الدفاع، لكن ذلك سيبقي السيادة العراقية مخترقة والدولة واقعة فعليًا تحت هيمنة الحشد. ومع تردد واشنطن في خوض صراع شامل، فإن المسار الأرجح هو احتواء الحشد لا تفكيكه — عبر ربط الموارد بالإصلاح، وجعل الأجنحة المسلحة أصغر وأفقر وأكثر قابلية للاستجابة. أما التخلي الطوعي عن السلاح فلن يحدث دون ضغط عسكري ساحق، وهو خيار لا ترغب الولايات المتحدة وحلفاؤها باتخاذه.
وبالتالي، سيبقى النفوذ الإيراني في المدى القصير قائمًا سياسيًا وبيروقراطيًا، بينما تختبر واشنطن ما إذا كان الضغط المالي والتعاون الأمني قادرين على تقليص مساحة المناورة أمام الحشد.
في النهاية، يبقى التعايش الخيار الأكثر واقعية داخل العراق، لكن الخطر يكمن في أن يعتقد أحد الطرفين أنه يستطيع الفوز بعد الانتخابات، فيدفع العراق من السياسة إلى السلاح مجددًا.
عن معهد الشرق الأوسط