في صباح اليوم التالي لإعلان نتائج الانتخابات التشريعية العراقية، بدت الساحة السياسية تستعد لبرلمان مغاير من دون أن تتغير قواعد اللعبة بالكامل. الغائب الأكبر كان التيار الصدري الذي قاطع الاستحقاق تاركاً فراغاً في الشارع الشيعي لم يملأه المدنيون القريبون من حراك تشرين، الذين تراجع حضورهم بفعل “الانقسام” و”الخذلان”، بل سار جزء واسع من هذا الفراغ نحو جهة مختلفة تماماً، جهة الفصائل المسلحة التي خرجت من صناديق الاقتراع بأكبر تمثيل برلماني لها منذ عام 2003.
النتائج التي أعلنتها المفوضية رسمت صورة برلمان بمجموع 329 مقعداً، تحتل فيه الأذرع السياسية للفصائل المسلحة ما بين ستين – سبعين مقعداً، تتصدرها حركة الصادقون التابعة لعصائب أهل الحق بثمانية وعشرين مقعداً، تليها منظمة بدر بحوالي عشرين مقعداً، إضافة إلى قوائم وتكتلات أصغر تدور في فلك ما يعرف بـ”فصائل المقاومة”.
هذا التوسع البرلماني لم يكن مجرد مفاجأة رقمية لخصوم هذه القوى، بل تحوّل فوراً إلى معادلة جديدة داخلية قد تربك حسابات بغداد وواشنطن وطهران على حد سواء.
جزء من تفسير هذا التحول يعود إلى طبيعة السياق الذي جرت فيه الانتخابات. فغياب الصدريين، الذين كانوا يمثلون في انتخابات 2021 ثقلاً شعبياً شيعياً كبيراً وخزاناً للاحتجاج والغضب في آن واحد، ترك شريحة من الناخبين من دون عنوان سياسي مباشر.
في المقابل، بدا أن ما تبقى من التيارات المدنية المنبثقة عن احتجاجات تشرين عاجزة عن تحويل زخم الشارع السابق إلى تمثيل منظم، بعدما تعرضت لضربات أمنية وانقسامات تنظيمية وتسويات جزئية مع السلطة، كما يتحدث مقربون من هذا الحراك.
في هذا الفراغ، تراكمت عوامل أخرى أبعد من الحدود العراقية. المحلل السياسي عصام حسين يرى أن ما جرى لا يمكن النظر إليه كصدمة عابرة، بل كحصيلة مسار بدأ قبل سنوات.
ويقول حسين إن الإعلام لعب دوراً حاسماً في “تضخيم الحضور الرمزي” للفصائل، من خلال خطاب “المقاومة والصمود”، لكن ما جعل الأرقام “مبهرة جداً” على حد وصفه هو الإقليم المشتعل المحيط بالعراق.
يعدد حسين ما يسميه سلسلة صدمات نفسية وسياسية للشارع الشيعي والعربي، من حرب الأيام الاثني عشر، إلى اغتيال الأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصرالله، إلى طوفان الأقصى في غزة، صعود التنظيمات المسلحة إلى السلطة في سوريا، ثم الطريقة التي تعاملت بها الولايات المتحدة مع هذه الملفات.
بحسب قراءته، انتقل الناخب العراقي في هذه الدورة من البحث عن “الخدمات” إلى البحث عن “الحماية”. “الناخب الذي كان قبل أعوام يندفع خلف شعارات الدولة المدنية ومكافحة الفساد، وجد نفسه اليوم يفضّل التصويت لمن يمتلك السلاح والخبرة القتالية والتنظيمية في مواجهة ما يراه تهديداً وجودياً للمنطقة، فصوّت للفصائل كرد فعل على الاهتزازات الإقليمية أكثر من كونه تفويضاً مفتوحاً لها”.
المفارقة التي يشير إليها حسين هي أن العداء الأميركي القديم للفصائل لم يكن سابقاً عاملاً في زيادة رصيدها الانتخابي كما حدث الآن.
يستعيد اغتيال نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس وقائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني في مطلع عام 2020 بوصفه لحظة كان يمكن أن تولّد موجة تعاطف شعبية عارمة مع الفصائل، لكنها لم تفعل بدرجة كبيرة، لأن المزاج العام وقتها كان مشغولاً أكثر بأجندة تشرين وإسقاط المنظومة من جذورها.
اليوم، المشهد معكوس تقريباً، فالخطاب الأميركي المتشدد تجاه هذه القوى تحوّل في عيون جزء من الجمهور إلى شهادة إضافية على “أهليتها” لمواجهة النفوذ الخارجي.
مع ذلك، لا ينحصر تفسير الصعود في الخارج وحده. فداخل العراق، تُترجَم هذه النتائج إلى إعادة توزيع محتملة لمراكز القوة داخل منظومة الحكم. المحلل السياسي مجاشع محمد يصف ما حدث بأنه “تحول سياسي لافت” في مسار ما بعد 2003.
ويقول محمد إن النتائج تعكس “مزاجاً شعبياً رافضاً لعدم الاستقرار، وراغباً في تمثيل قوى تمتلك حضوراً تنظيمياً وشعبياً واضحاً”، مشيراً إلى أن الفصائل التي خاضت الانتخابات لم تعد مجرد تشكيلات مسلحة في الهامش، بل شبكات سياسية واجتماعية متجذرة في محافظات ومدن وأحياء.
من وجهة نظره، سيعزز هذا الفوز حضور تلك القوى داخل مؤسسات الدولة، ويمنحها قدرة أكبر على التأثير في تشكيل الحكومة المقبلة ورسم أولوياتها، خصوصاً في الملفات السيادية والعلاقات الخارجية وسياسات الأمن والطاقة.
داخل الإطار التنسيقي نفسه، يتوقع محمد أن تعيد هذه الأرقام توزيع الأدوار بين مكوّناته، بحيث تنتقل بعض مراكز الثقل تدريجياً من الأحزاب التقليدية إلى الأجنحة الأوثق صلة بالذراع العسكري.
كل ذلك يضع موقع رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني في قلب المعادلة. فالرجل الذي جاء إلى رئاسة الحكومة بتوافق مع الفصائل وبمباركة إيرانية أميركية غير معلنة، يجد نفسه اليوم أمام شركاء أقوى برلمانياً ولكنهم أكثر تشككاً في نيّاته، حيث إن الرأي السياسي المقرب من الإطار يذهب إلى أن حظوظ السوداني بولاية ثانية “ضعيفة”.
ويشرح محمد أن الفصائل تنظر إلى الفترة الأخيرة من حكم السوداني على أنها مرحلة ابتعد فيها عن معسكرها، واقترب أكثر من تموضع إقليمي يميل إلى تركيا وقطر والتيارات القريبة من الإخوان المسلمين، وأنه حاول إرسال إشارات إلى واشنطن بأنه لا يتبنى بالكامل دعم الفصائل لسياسته، وأنه مستعد للحديث عن ضبط السلاح، كما أحاط نفسه بفريق استشاري وشبكات داخل مكتبه لا تنظر بعين الرضا إلى نفوذ هذه القوى.
في الخلفية، تقف الولايات المتحدة وهي تراقب هذا التحول بعين القلق والحساب البارد في آن واحد. وزارة الخارجية الأميركية كانت قد حذرت في تصريحات سابقة قبل أيام من الانتخابات من أن أي توسع للفصائل المسلحة في مؤسسات الدولة سيمثّل “مصدراً جدياً للقلق”، مشددة على ضرورة حصر السلاح بيد الدولة، والالتزام باتفاقيات الشراكة الأمنية والاقتصادية.
تلك التحذيرات بدت في حينها أقرب إلى رسائل استباقية، لكنها اليوم تتحول إلى إطار يُقرأ من خلاله المشهد الجديد في بغداد.
وفي هذا السياق، يراكم المبعوث الرئاسي الخاص إلى العراق مارك سافايا لهجة أكثر مباشرة في بياناته الأخيرة. فهو يكرر أن إدارة الرئيس دونالد ترمب “لن تقبل”، بأن تمتلك الفصائل المسلحة “اليد الطولى” في الحكومة المقبلة أو أن تتحكم في مفاصل القرار السيادي، خصوصاً في ملفات الأمن والطاقة والسياسة الخارجية.
الرسالة الضمنية واضحة، لا فيتو على مشاركة هذه القوى في العملية السياسية طالما أنها منخرطة فيها منذ سنوات، لكن هناك خطوطاً حمراء تتعلق بمستوى سيطرتها وهيكل العلاقة مع إيران.
هذا التوازن بين عدم التدخل المعلن والفيتو غير المعلن يشرحه المستشار السابق في وزارة الخارجية الأميركية ديفيد فيليبس، مؤكداً أن واشنطن تدرك أن مفاوضات تشكيل الائتلافات في العراق “تستغرق وقتاً طويلاً” وأنها مستعدة لمنح العملية مساحة من الوقت، ما دام العراقيون “يتفاوضون بحسن نية”.
إلا أن فيليبس يلفت إلى أن إدارة ترمب معروفة بأنها سريعة اللجوء إلى “سلاح العقوبات” عندما ترى أن مصالحها الاستراتيجية مهددة، وأنها قد تستخدم التلويح بهذا السلاح للضغط في اللحظات الحاسمة من التفاوض، مع حرصها على انتظار انتهاء عملية تشكيل الحكومة ورؤية مخرجاتها قبل الانتقال إلى أي خطوات حاسمة.
وفي مقابل هذا الحذر، يرى صفوان الأمين، وهو زميل أقدم في المجلس الأطلسي في واشنطن، أن المسار كله يتجه إلى “مفاوضات شاقة” وطويلة لتشكيل الحكومة.
ويقول الأمين إن الفصائل المسلحة جزء راسخ في المشهد منذ سنوات، وتعتبر نفسها صاحبة “حق مكتسب” في السلطة، وهي لن تقبل بسهولة أن يُطلب منها التراجع أو تجميد نفوذها.
في المقابل، تبدو مطالب الإدارة الأميركية واضحة بشأن حصر السلاح بيد الدولة وعدم السماح بولادة حكومة خاضعة لأجندات مسلحة، ما يخلق تناقضاً بنيوياً بين طرفين كلاهما يملك أدوات ضغط قوية، من القدرة على التعطيل في البرلمان إلى العقوبات والضغط الاقتصادي والسياسي.
وبين هذه المقاربات الأربعة، العراقية والأميركية، تبدو صورة العراق ما بعد انتخابات 2025 أكثر تعقيداً مما توحي به الأرقام وحدها.
صعود الفصائل في البرلمان ليس مجرد زيادة في عدد المقاعد، بل اختبار لقابلية النظام السياسي على التكيف مع وجود قوى مسلحة في قلب التشريع والحكم، واختبار لعلاقة بغداد بكل من واشنطن وطهران، وربما أيضاً لحدود ما تبقى من حلم دولة مدنية رفعته ساحات تشرين قبل سنوات.
البرلمان الجديد، الذي غابت عنه رايات الصدر وحشود تشرين، قد يتحول إلى مسرح لأول صِدام جدي بين منطق “الدولة أولاً” ومنطق “المقاومة أولاً”.
في هذه الأثناء، يبقى الشارع العراقي أمام مشهد لا يزال يتشكل، بين برلمان تتوسع فيه الأجنحة المسلحة، وحكومة مقبلة لم تُولد بعد، ورئيس وزراء تسحب من تحت قدميه تدريجياً الأرض التي أوصلته إلى السلطة، وحلفاء خارجيين يراقبون من بعيد ويعدّلون حساباتهم، في بلد اعتاد أن تكون كل انتخابات فيه بداية أزمة جديدة لا خاتمتها.