الوثيقة | مشاهدة الموضوع - انتخابات العراق 2025: المال السياسي والفساد الإداري يرسمان المشهد : صادق الطائي
تغيير حجم الخط     

انتخابات العراق 2025: المال السياسي والفساد الإداري يرسمان المشهد : صادق الطائي

مشاركة » الأحد نوفمبر 09, 2025 2:57 am

يستعدّ العراق في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2025 لخوض انتخابات برلمانية جديدة هي السادسة منذ سقوط نظام صدام حسين عام 2003، في مشهدٍ سياسي يختلط فيه الإحباط بشيء من الأمل الخافت في الإصلاح. أكثر من 7768 مرشحًا، بينهم 2248 امرأة، يتنافسون على 329 مقعدًا في مجلس النواب، وسط حملات انتخابية صاخبة، وشوارع مغطّاة بصور المرشحين وشعارات الوعود بالتغيير.
لكنّ خلف هذا الزخم الدعائي، يسود شعور عام بالركود والريبة. فالمواطن العراقي يدخل موسم الانتخابات محمّلًا بخيبات متراكمة من تجارب سابقة لم تُفضِ إلى تبدّلٍ حقيقي في شكل الحكم أو في مستوى المعيشة. ومنذ عقدين، تحوّلت العملية الانتخابية إلى طقس سياسي متكرر أكثر مما هي آلية تداول سلطة، تُعيد في كل مرة إنتاج القوى ذاتها بأسماء وتحالفات مختلفة.
البيئة الانتخابية الحالية توصف بأنها الأكثر انكشافًا أمام تأثير المال السياسي والفساد الإداري، فيما تتراجع الثقة بالمؤسسات الرسمية، بما فيها المفوضية العليا للانتخابات، التي يُنظر إليها على نطاق واسع بوصفها أداة خاضعة لتجاذبات الأحزاب المتنفذة. وإلى جانب ذلك، تتزايد دعوات المقاطعة وامتناع شرائح واسعة من الشباب عن التسجيل أو التصويت، في مؤشرٍ على انهيار الرابط بين المواطن وصندوق الاقتراع.
هكذا تبدو انتخابات 2025 – رغم أهميتها الدستورية – أقرب إلى سباق شكلي لإعادة توزيع النفوذ بين الكتل السياسية منها إلى استحقاق ديمقراطي حقيقي يمكن أن يغيّر وجه النظام أو يعيد ثقة الناس بالعملية السياسية.

تنافس على المقاعد أم على الغنائم؟

تُظهر الدراسات أن نحو 30 مليون عراقي يحقّ لهم التصويت، لكن المسجّلين فعليًا لا يتجاوزون 21 مليونًا، ما يعني أن ثلث الناخبين خارج العملية من الأساس. وإن أبرز المقاطعين هو التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر، الذي انسحب من البرلمان عام 2022 بعد فشل مسعاه لتشكيل حكومة «أغلبية وطنية»، وأعلن مقاطعة الانتخابات الحالية محذرًا أتباعه من الترشح تحت أي قائمة أخرى. المقاطعة الصدرية تمثّل ضربة لشرعية الاقتراع، إذ يمتلك التيار قاعدة انتخابية ضخمة قادرة على ترجيح الكفّة في العاصمة بغداد والمحافظات الجنوبية.
ويرى الباحث في معهد «تشاتام هاوس» البريطاني ريناد منصور أن الانتخابات المقبلة لا تُعدّ اختبارًا للإرادة الشعبية بقدر ما هي عملية لإعادة توزيع النفوذ بين النخب التقليدية. فالقوائم المتنافسة، من تحالف الإطار التنسيقي الشيعي إلى القوى الكردية والسنية، تخوض السباق وهي تدرك مسبقًا أن تشكيل الحكومة سيتم وفق تسويات ما بعد الانتخابات، وليس عبر فوزٍ صريح.

المال السياسي… السيد الحقيقي للانتخابات

إذا كانت الشعارات الدعائية تتحدث عن الإصلاح، فإن الواقع الانتخابي تحكمه صفقات المال السياسي السوداء. إذ تشير تقارير صحافية إلى أن بعض التحالفات أنفقت مبالغ فلكية: فقد صرّح السياسي حميد الهايس بأن تحالف «تقدّم» بزعامة محمد الحلبوسي خصص600 مليون دولار لحملته في بغداد وحدها، بينما قدّر رئيس تحالف «صقورنا» كلفة المقعد النيابي الواحد بنحو خمسة مليارات دينار عراقي. تقديرات أخرى أشارت إلى أن مجموع الإنفاق الانتخابي تجاوز 11 تريليون دينار (8.3 مليارات دولار)، أي بمعدل يقارب 395 دولارًا للناخب الواحد، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ الانتخابات العراقية.
هذا الإنفاق الضخم لا يُستخدم فقط في الحملات الإعلامية، بل في شراء الأصوات بشكل مباشر. إذ تُظهر مشاهدات ميدانية توزيع أموال وبضائع – بطانيات ومواد غذائية وحتى مبالغ نقدية تصل إلى 100 دولار للصوت الواحد– خصوصًا في الأحياء الفقيرة. ويصف أحد المرشحين هذه الممارسات بأنها «عملية مستمرة في كل دورة انتخابية، لا أحد يوقفها، ولذلك باتت تتكرر بلا خجل». النائب السابق أيوب الربيعي وصف المشهد بقوله: «الإنفاق غير المسبوق للمال السياسي الأسود يهدد شرعية الانتخابات بالكامل، ويحولها إلى صفقة تجارية». فالمال السياسي، بحسبه، لم يعد خرقًا عرضيًا، بل آلية رسمية لإدارة الانتخابات.

الدعاية الانتخابية: فوضى ولا معايير

منذ انطلاق الحملة الانتخابية في 3 تشرين الأول/أكتوبر، غرقت بغداد والمدن العراقية ببحر من اللافتات والصور والشعارات، في غياب أي ضوابط لحجم الإعلانات أو مواقعها. رئيس الفريق الإعلامي في المفوضية العليا المستقلة للانتخابات عماد جميل أقرّ بأن المفوضية لا تملك معايير واضحة لحجم أو شكل اللافتات، مكتفية بفرض غرامات مالية على من يخرق المدة القانونية للحملات.
هذا الفراغ القانوني سمح للأحزاب الكبيرة بالهيمنة على المشهد الدعائي عبر احتلال الفضاءات العامة، بل وحتى استخدام الأبنية الحكومية في تعليق صور المرشحين. ويقول الأكاديمي حيدر الجوراني؛ إن «تحديد حجم اللافتات وعددها ضرورة لتحقيق عدالة في المنافسة، لأن غيابها جعل المال السياسي يسيطر على الجو العام».
وتجد المفوضية العليا المستقلة للانتخابات نفسها في قلب الجدل. فقد أعلنت استبعاد أكثر من 600 مرشح لأسباب وُصفت بأنها «إدارية وقانونية»، مثل عدم استكمال الوثائق أو قضايا تتعلق بالمساءلة والعدالة، وشهادات دراسية مزوّرة، واتهامات بالفساد.
لكن خبراء كثر يرون أن هذه الإجراءات تُستخدم كأداة سياسية لإعادة هندسة المشهد الانتخابي. إذ يقول الباحث غازي فيصل؛ إن «الاستبعادات لم تعد إجراءً فنياً بل أصبحت سلاحًا لإقصاء المستقلين والمعارضين»، مضيفًا؛ أن «المفوضية باتت أداة لإعادة إنتاج البرلمان على مقاس القوى التقليدية». وفي بعض الحالات، عاد مرشحون مستبعدون إلى السباق بعد تدخلات سياسية أو صفقات، ما يعكس غياب الشفافية والمعايير الثابتة. هذا التذبذب، وفق مراقبين، يضعف ثقة الجمهور بالمؤسسة التي يفترض أن تكون الضامن لنزاهة الاقتراع.

استغلال موارد الدولة: الوظائف والولاءات

يُواجه رئيس الوزراء محمد شياع السوداني اتهامات متزايدة باستغلال سلطاته التنفيذية لتعزيز موقعه الانتخابي، في مشهدٍ يعيد إنتاج العلاقة القديمة بين الدولة والحزب الحاكم. فخلال ثلاث سنوات من ولايته، ارتفع عدد العاملين في القطاع العام بأكثر من مليون موظف جديد، في وقتٍ تعاني فيه الموازنة من تضخّم النفقات التشغيلية وعجزٍ في تمويل المشاريع التنموية. كما أصدر السوداني نحو تسعة آلاف كتاب شكر وتقدير لموظفين قبيل الانتخابات، في خطوة فسّرها مراقبون على أنها رسائل سياسية تهدف إلى كسب الولاءات داخل الجهاز الإداري وتحويل البيروقراطية إلى خزان انتخابي لصالحه.
توسّع هذا النمط ليشمل توزيع المناصب الحكومية والعقود العامة على أساس الولاء الحزبي أكثر من الكفاءة، إذ أصبحت دوائر الدولة في بعض المحافظات ساحة لتبادل النفوذ بين الكتل السياسية. وشهدت الأسابيع السابقة للانتخابات تسريعًا في إطلاق مشاريع خدمية مؤجلة، من تعبيد طرق محلية إلى تأهيل مدارس ومراكز صحية، وغالبًا ما تُرفق تلك الأعمال بلافتات تحمل صور المرشحين وشعاراتهم.
هذه الممارسات تُعرف في الأوساط السياسية العراقية باسم «الخدمات الانتخابية»، وهي شكل ناعم من استخدام المال العام في الدعاية السياسية. فالحكومة، بدل أن تُمارس دورها كجهة محايدة تشرف على انتخابات نزيهة، تتحوّل عمليًا إلى أداة تعبئة انتخابية توظّف مواردها البشرية والمالية والإدارية لترسيخ سلطة القائمين عليها.
ويرى محللون أن هذا النمط من تسييس الدولة يُعد أخطر من شراء الأصوات المباشر، لأنه يكرّس ثقافة الزبائنية داخل مؤسسات الحكم، ويقوّض ما تبقّى من ثقة المواطنين في حياد السلطة التنفيذية وفي مبدأ تكافؤ الفرص بين المرشحين.

المقاطعة والجيل الجديد

في المقابل، يزداد زخم حملات المقاطعة الشعبية، خصوصًا بين جيل الشباب، الذي يستخدم مواقع التواصل للدعوة إلى عدم التصويت «لإسقاط شرعية الطبقة الفاسدة». الناشط محمد العامري، الذي يدير صفحة على فيسبوك يتابعها أكثر من مليون شاب، يقول إنهم «يرفضون المشاركة في مسرحية تبقي نفس الوجوه في السلطة»، مؤكداً أنه تلقّى عروضاً مالية لتغيير موقفه لكنه رفضها. هذه الحملات تذكّر بروح احتجاجات تشرين 2019 التي طالبت بإسقاط النظام الطائفي ومحاسبة الفاسدين، قبل أن تُقمع بعنف وتُحتوى لاحقًا عبر الترهيب أو شراء الذمم.
ولم تخل هذه الدورة من الانتخابات البرلمانية العراقية من العنف السياسي. فقد اغتيل في تشرين الأول/أكتوبر المرشح صفاء المشهداني بعد انتقاده علنًا للفساد ولنفوذ الميليشيات في منطقته. كما تلقت مرشحات تهديدات مباشرة، ما دفع بعضهن إلى الانسحاب. السلطات أعلنت تعزيز الحماية والتحقيق، لكنّ كثيرين يرون أن «الخطر الحقيقي هو من السلاح غير المنضبط الذي يحكم الشارع والسياسة معًا».
من الناحية الدستورية، يُفترض أن تُسهم الانتخابات في إنتاج حكومة جديدة خلال نحو 224 يومًا في المتوسط بعد التصويت، لكن التجارب السابقة أظهرت أن المفاوضات الطويلة والمساومات السرّية تحسم النتيجة قبل إعلانها رسميًا. يقول الباحث يحيى الكبيسي إن «النتيجة الحقيقية تُصاغ في الغرف المغلقة لا في صناديق الاقتراع، فالنظام الانتخابي في جوهره أصبح وسيلة لإعادة تدوير الطبقة نفسها».

شرعية متآكلة ومخاوف من الفوضى

بعد هذا المشهد المركّب من المقاطعة والارتياب العام، يبرز السؤال الجوهري: ماذا بعد 11 تشرين الثاني/نوفمبر؟ تبدو الانتخابات البرلمانية المقبلة في العراق أقرب إلى سباق مغلق بين النخب التقليدية لتقاسم السلطة والثروة منها إلى ممارسة ديمقراطية تفتح أفقًا للتغيير. فالقوى السياسية المتجذّرة منذ عام 2003 نجحت في تحويل النظام الانتخابي إلى دائرة مغلقة تُعيد إنتاج نفسها عبر آليات محسوبة بدقة، حيث تتحوّل المقاعد البرلمانية إلى أوراق مساومة في مفاوضات ما بعد التصويت أكثر مما هي تعبير عن إرادة الناخبين.
المال السياسي، الذي كان في السابق يُستخدم كوسيلة هامشية للتأثير، أصبح اليوم المحرّك المركزي للعملية الانتخابية، فيما تحوّلت المفوضية العليا للانتخابات إلى جهة شكلية تعمل تحت ضغط القوى المتنفذة. أما الدولة، فقد انزلقت تدريجيًا إلى وضع «الإقطاعية السياسية»، حيث تُستغل مؤسساتها ومواردها العامة في تثبيت نفوذ أحزاب الحكم وضمان استمرارها في السلطة.
في المقابل، يجد المواطن العراقي نفسه بين مطرقة الفوضى وسندان الفساد، يراقب مشهدًا انتخابيًا يفتقر إلى الأمل ويعيد الوجوه ذاتها كل دورة، فيما يواصل الانقسام الطائفي والولاء الحزبي تقويض فكرة المواطنة والمساواة السياسية. انخفاض نسبة المشاركة المتوقّع لا يعكس اللامبالاة بقدر ما يعكس فقدان الثقة العميق في قدرة النظام على الإصلاح الذاتي أو محاسبة الفاسدين.
ويحذّر مراقبون من أن تآكل الشرعية الانتخابية قد يدفع نحو دوامة جديدة من الاضطرابات، خصوصًا إذا ترافق مع تلاعب في النتائج أو إقصاء قوى معارضة فاعلة. فالتجارب السابقة تُظهر أن انغلاق النظام على نفسه لا يُنتج استقرارًا، بل يفاقم الاحتقان الشعبي الذي قد ينفجر في أي لحظة على شكل احتجاجات واسعة أو مواجهات سياسية عنيفة.
العراق يقف اليوم عند مفترق طرق: إما تجديد شرعية النظام عبر إصلاحات جذرية تضمن عدالة المنافسة واستقلال المؤسسات، أو استمرار الدوران في حلقة مغلقة من «ديمقراطية الواجهة» التي تُجرى فيها الانتخابات بانتظام، لكنها لا تُغيّر شيئًا في بنية الحكم أو في حياة الناس. وكما كتب أحد المحللين: «العراق لا يعاني من أزمة انتخابات، بل من أزمة نظامٍ كاملٍ يرفض أن يُصلح نفسه، ويُعيد إنتاج فشله كل أربع سنوات».
العناوين الاكثر قراءة









 

العودة إلى المقالات