في شوارع لندن، كانت الأصوات تهتف: «وحّدوا المملكة»، لكنّ هذه الهتافات لم تكن دعوة حقيقية للوحدة، بل صرخة خوفٍ من الآخر، خوف من الغريب الذي أصبح مرآةً لاضطراب الهوية البريطانية نفسها. خلف اللافتات والأعلام التي رُفعت في تظاهرة 13 أيلول/ سبتمبر الفائت، كانت تتكثّف أزمة مجتمعٍ يشعر بأنّه ربما يفقد شيئا من نفسه، فيحمّل المهاجرين ذنب هذا الفقدان. لم تكن تلك المسيرة مجرّد حدثٍ سياسي، بل مرآة لبلدٍ بدأ يتأرجح عند كل محطة سياسية، بين فخرٍ بماضٍ لا يريد أن يشيخ، ومستقبلٍ لا يعرف كيف يُتعامل معه.
تبدو بريطانيا، اليوم، وكأنها تراجع نفسها أمام المرآة، لكنّها لا ترى سوى ما تريد أن تراه: الجرائم حين يرتكبها «الآخر»، والانضباط حين يأتي من أبناء الأرض: أيّ حادثٍ يطال مهاجرا آسيويا، مهما كان بسيطا، يتحوّل إلى «مانشيت» في الصحف، بينما تمرّ الجرائم التي يرتكبها أيّ بريطانيّ أبيض أو أوروبيّ شرقيّ كأنّها شيء عادي لا يستحق النقاش.
هذه الانتقائية بالغضب، والتفاوت في النظر إلى الجريمة، ليست سوى انعكاسٍ لتحوّلٍ أعمق: إحساسٍ بالتهديد الوجودي من كل مهاجر، لا بوصفه منافسا اقتصاديا، بل كرمز لاختلال ثقافيّ يخشاه كثيرون. منذ صعود اليمين المتطرّف والشعبوي في أوروبا، أصبحت الكراهية المغلّفة بشعارات الوطنية سلعةً رائجة. وها هي تلك العدوى تنتقل إلى بريطانيا بعد «بريكست» (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي) لتملأ الفراغ الذي خلّفه الوهم بالاستقلال والسيادة. في زمنٍ كانت فيه المملكة المتحدة، تبحث عن معنى جديدٍ لوحدتها، جاءت شعارات مثل «وحدوا المملكة» لتفكّكها أكثر. إنها مفارقة أن يُرفع شعار الوحدة في تظاهرةٍ تنادي عمليا بالإقصاء. ومع أنّ الحكومة العمالية الجديدة، برئاسة كير ستارمر، رفعت منذ البداية شعار «الاعتدال والعقلانية»، إلاّ أنّها سرعان ما وجدت نفسها تركض خلف مزاج الشارع. خوف الحكومة من خسارة الأصوات جعلها تعالج ملفّ الهجرة، بعقلية الأزمات لا بعقلية السياسات، فبينما يدعو خطابها الرسمي إلى التسامح والاحتواء، تعمل الأجهزة الحكومية على تشديد قوانين اللجوء، وتقييد الإقامة، وتطرح مشاريع لإيواء المهاجرين في قواعد عسكرية خارج المدن الكبرى… إنّه حقاً تناقض يفضح هشاشة الخطاب السياسي حين يصطدم بحسابات السلطة!
حين تفهم بريطانيا أنّ الهجرة ليست خطرا، بل فرصة، ربما تعود لتكون كما كانت تدّعي بلادا منفتحة على العالم، لا خائفة منه
وفي هذا السياق، تحوّل المهاجر إلى «ورقة ضغط» في صراعٍ على البقاء السياسي، صار ملفّ الهجرة وسيلةً لإعادة التموضع الحزبيّ، لا لحلّ الأزمة الاجتماعية. كل حزبٍ يلوّح به ليكسب بعض النقاط في استطلاعات الرأي، من دون أن يجرؤ أحد على الاعتراف بأنّ اقتصاد بريطانيا الحديث، قائمٌ في جزءٍ كبيرٍ منه على هؤلاء الذين يُراد تحويلهم إلى كبش فداء. فمن يقود سيارات التوصيل، ومن يملأ المستشفيات، ومن يعمل في قطاعاتٍ حيوية كالخدمات والرعاية والنقل، هم المهاجرون الذين يُراد حصرهم اليوم في معسكراتٍ عسكرية.
ليست هذه أول مرة تُستعمل فيها فكرة «الخطر الديموغرافي» لإعادة ترتيب المزاج العام، لكن الجديد أنّ هذا الخطاب لم يعد حكراً على الهامش المتطرف، بل بدأ يتسرّب إلى قلب التيار السياسي نفسه، الصحف الكبرى تتحدّث اليوم بلغةٍ كانت قبل سنوات تُعدّ «عنصرية». البرامج الحوارية تمنح المتطرفين منابر لتبرير الغضب، لا لتحليله. والمفارقة أنّ من يرفعون شعار «استعادة السيطرة» على الحدود، لا يدركون أنّهم فقدوا السيطرة على أنفسهم، فالخوف حين يتحوّل إلى سياسة، يُنتج دوامةً لا نهاية لها من القلق والعداء. وعلى الرغم من أنّ بريطانيا لطالما قدّمت نفسها كدولة ذات مجتمع متعدّد الثقافات، إلاّ أنّ التعددية هناك لم تعد تُقدَّم كقيمة، بل أصبحت تقدم كعبء. الحديث الرسمي عن «الاندماج» يُخفي رغبةً في «الذوبان» لا في المشاركة، وكأن المطلوب من المهاجر أن يُمحى كي يُقبل. في المدارس والجامعات وأماكن العمل، باتت اللهجات والملابس والعادات موضع شكّ، هذا الانكماش الثقافي يعبّر عن أزمة ثقة في الذات أكثر مما يعبّر عن رفضٍ للآخر، لأنّ المجتمع الذي لا يعرف من هو، يخاف ممّن يذكّره بأنه ليس كما كان.
على الجانب الآخر، يعيش المهاجرون في صمتٍ ثقيل، يعرفون أنّ أيّ خطأ صغير يمكن أن يُستخدم ضدّهم، يحاولون التكيّف، يكدحون في أعمالٍ لا يريدها أحد، ويدفعون ضرائبهم، لكنّهم يظلون موضع ريبة. ما من سياسي يتحدث عنهم إلا ليعدّهم، أو ليعد الناس بالتخلص منهم، ومع ذلك، فإن أرقام الاقتصاد لا تكذب: المهاجرون يسهمون بأكثر مما يأخذون، ويملأون فجواتٍ حقيقية في سوق العمل المتعب، لكن في زمن السياسة الشعبوية، الأرقام لا تهمّ، المهم هو العدوّ الجاهز.
إنّ التظاهرة التي خرجت في سبتمبر، تحت شعار «وحدوا المملكة» ليست سوى وجهٍ علنيّ لانقسامٍ عميقٍ في الهوية البريطانية. المملكة التي كانت يوما إمبراطورية تُسيطر على العالم، تبدو اليوم عاجزة عن السيطرة على روايتها الداخلية، لم تعد تعرف إن كانت أمةً منفتحة أم منغلقة، أوروبية أم جزيرية، تقدّمية أم محافظة، كل هذه الأسئلة تطفو الآن على السطح، والمهاجر يصبح مرآةً تعكس هذا الارتباك. حين يخاف البريطاني من المهاجر، فهو في الواقع يخاف من نفسه. لا شيء يوحّد المملكة حقا سوى حاجتها إلى مواجهة ذاتها، فالوحدة لا تُفرض من الشارع ولا تُنظَّم في تظاهرة، بل تُبنى على الاعتراف بالمشترك الإنساني بين من وُلدوا هنا، ومن اختاروا أن يعيشوا هنا. وحين تفهم بريطانيا أنّ الهجرة ليست خطرا، بل فرصة، ربما تعود لتكون كما كانت تدّعي: بلادا منفتحة على العالم، لا خائفة منه.
كاتب لبناني