حدد “معهد الحرب المعاصرة” الاميركي، الدروس التي بإمكان الجيش الاميريكي وغيره، تعلمها من الحرب العراقية-الايرانية، بما في ذلك من خلال تسخير عناصر القوة الثلاثة التي بموجبها حشدت بغداد وطهران جيوشهما واستخدمتها، وهي الديناميكيات السياسية الداخلية، والتحالفات الخارجية، وتمويل الحرب.
واعتبر المعهد الأميركي التابع لكلية “ويست بوينت” العسكرية، في تقرير، إن الحرب العراقية-الايرانية تمثل صورة نموذجية للحرب الواسعة النطاق والتي أودت بحياة نحو نصف مليون شخص، والحقت اضرارا جسيمة بالمدن عند الطرفين، بعدما اشتعلت مع إلغاء بغداد اتفاقية الجزائر للعام 1975، وغزو صدام حسين بعد أشهر من الاشتباكات الحدودية، مراهنا على الاستفادة من الاضطرابات التي شهدتها إيران بعد الثورة والتي كان يفترض أن تدفع طهران الى تقديم تنازلات سريعة.
ولفت التقرير إلى أنه بحلول العام 1987، كان العراق قد نشر حوالي 800 الف جندي، وأكثر من 4500 دبابة، واكثر من 500 طائرة حربية، بينما حشدت ايران حوالي 850 الف جندي، وحوالي 1000 دبابة، وعشرات المقاتلات فقط.
وتابع التقرير أن الهجوم العسكري العراقي في العام 1988، والذي بلغت ذروته باستعادة العراق السريعة لشبه جزيرة الفاو بقوة هجومية قوامها نحو 100 الف جندي ومدرعات ثقيلة، هيأت الظروف لقبول طهران وقف إطلاق النار بموجب قرار مجلس الامن التابع للامم المتحدة رقم 598.
واعتبر التقرير ان هذه الحرب أظهرت كيف أن الديناميكيات السياسية الداخلية، والتحالفات الخارجية، وتمويل الحرب، تحدد كيفية حشد الدول لجيوشها وتوظيفها، وكيفية تصعيدها، وكيفية تقييمها وتمركزها بعد صمت المدافع.
ولفت التقرير إلى أن هذه العناصر الثلاثة نفسها تشكل الحروب الحالية أيضا، كما في حرب أوكرانيا، وهي تساعد في تفسير سبب اختلاف حشد روسيا وأوكرانيا وتصعيدهما، وتُقدم رؤية صحيحة للتفكير في الحرب الواسعة المقبلة، سواء في اوروبا او في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
وذكر التقرير ان صدام حسين “المستبد” الذي صعد الى السلطة عن طريق التطهير، اطلق الحرب بشكل اختياري في ايلول/ سبتمبر العام 1980، وتجنب الاستدعاء المتسرع للجنود على مستوى المجتمع ونظم التعبئة، من خلال حوالي 30 الف مجند سنويا من مجموعة سنوية تضم حوالي 135000 حتى العام 1985، ثم وصل الى ما يقرب من 70 ألف مجند سنويا حتى نهاية الحرب.
وفي الوقت نفسه، قال التقرير إن صدام قام بتمويل تطوير الجيش من خلال القروض، موضحا أنه بعدما دمرت الضربات الايرانية محطات النفط العراقية في ميناء البكر وخور العمية، تراجعت عائدات النفط العراقية من حوالي 26 مليار دولار في العام 1980 الى 7 مليارات دولار في العام 1983، إلا أن ممالك الخليج والاتحاد السوفيتي ملأت فجوة تمويل الحرب في العراق بحوالي 110 مليارات دولار على شكل قروض وائتمانات الموردين، وهو ما يمثل نحو ثلاثة أرباع تمويل حرب العراق، ما أتاح لبغداد القيام بمشتريات على نطاق واسع: دبابات “تي -72” ومركبات قتالية “بي ام بي”، وطائرات “ميغ” وسوخوي” وأسطول من المروحيات أكبر من اسطول ايران، بالاضافة على عمليات التدريب وشراء قطع الغيار والمستشارين.
أما على الأرض، فقد اشار التقرير الى ان العراق خاض معظم أوقات الحرب في وضع دفاعي، محتميا خلف احزمة أسلحة متعددة الطبقات شرق البصرة، من حقول ألغام، وأسلاك، وسواتر ترابية، وعوائق مائية محمية بمدفعية موجهة بالرادار، وطائرات هليكوبتر هجومية، ونيران كيميائية، عرقلت الهجمات الايرانية المتكررة في الشلامجة وعبر مداخل البصرة.
وتابع التقرير أنه بحلول العام 1988، أن القوة العراقية كانت قد نضجت، وقلبت موازين القوى، من خلال عملية “توكلنا” الهجومية في العام 1988، حيث استعاد العراق شبه جزيرة الفاو خلال 36 ساعة، ودمر التجمعات الايرانية على طول الجبهة الجنوبية، واستعاد جميع الأراضي العراقية، مما هيأ الظروف لقبول طهران وقف إطلاق النار.
وبحسب معظم التقديرات، اشار التقرير الى ان خسائر إيران تجاوزت خسائر العراق، والتي كثيرا ما تحدد بأنها بلغت نحو 500 ألف قتيل إيراني مقابل 180 الف قتيل عراقي، مع إجمالي عدد الجرحى يتجاوز المليون.
أما على الجانب الايراني، فقد قال التقرير إن قادة طهران الثوريون لم يثقوا بجيش ما قبل الثورة، وشكلوا قوة موازية في الحرس الثوري الإسلامي، كما حشدوا قوات الباسيج، الا ان عزلة إيران الدولية وضعف ائتمانها المالي عزز هذا الخيار، مضيفا أن طهران مولت الحرب ذاتيا الى حد كبير من عائدات تصدير النفط التي ارتفعت من حوالي 10.5 مليارات دولار العام 1980 الى حوالي 21.5 مليار دولار العام 1983.
ولفت التقرير الأميركي إلى أن الاموال المتوفرة كانت بديلا عن القروض الاجنبية، وهي مولت عمليات شراء انتقائية من الصين وكوريا الشمالية وليبيا وسوريا، مع قطع غيار سرية غربية المنشأ كلما سنحت الفرصة.
وتابع ان القوات الايرانية الاولية كانت تضم نحو 290 ألف جندي، اضافت اليها ما بين 100 ألف و120 الف جندي سنويا وصولا حتى العام 1984، ثم نحو 70 ألف جندي سنويا مع تناقص التعبئة، لتصل الى قوة قوامها نحو 850 ألف جندي بنهاية الحرب.
وبحسب التقرير، فإن هذه الزيادة المفاجئة سمحت لإيران باجتياح قطاعات من الجبهة، وغالبا ما كانت تحشد قوة بنسبة اثنين الى واحد أو اكثر ضد الدفاعات العراقية.
وتابع قائلا إن متطوعي الباسيج هاجموا على دفعات لاختراق حقول الألغام والاسلاك الشائكة، وتحديد الثغرات، وتمكين تشكيلات الحرس الثوري والجيش من استغلالها، وهو تكتيك حقق نتائج عملياتية مبكرة مثل تحرير خرمشهر العام 1982، والاستيلاء على جزيرة مجنون العام 1984، وتهديد كركوك شمالا والبصرة ومنفذها على الخليج جنوبا.
وبينما كان روح الله الخميني يرفض مقترحات وقف إطلاق النار لسنوات، قال التقرير ان هذا النهج العسكري اظهر انه مكلف بشكل متزايد وبحلول العام 1988، فقد زخمه مع تزايد الخسائر وتقلص عائدات النفط.
واعتبر التقرير أن مسار ايران يوضح الفرضية التالية: حيث اجتمعت الديناميكيات السياسية الداخلية (المؤسسات الموازية)، والعلاقات الخارجية (العزلة مع مجموعة موردين محدودة)، والتمويل (النقد بدلا من الائتمان) لتؤدي الى نموذج تعبئة وتوظيف يركز على الكمية، وهو نموذج يمكن أن يولد ضغطا وقوة تحمل، ولكن تكلفته البشرية باهظة ما يضيق في نهاية المطاف الخيارات الاستراتيجية.
وذكر التقرير ان القوى الثلاث نفسها التي حددت كيفية حشد ايران والعراق لجيوشهما وتوظيفها، اي الديناميكيات السياسية الداخلية، والتحالفات الخارجية، وتمويل الحرب، هي نفسها التي صاغت كيفية اختيار كل منهما للتصعيد.
وتناول التقرير مفهوم “التصعيد العمودي” والذي يعتمد على استخدام وسائل أكثر تدميرا او ضرب اهداف اكثر قيمة، ومفهوم “التصعيد الافقي” الذي يوسع نطاق الصراع عبر المناطق الجغرافية او المجالات، حيث ان بغداد اعتمدت النهج العمودي، بينما طبقت طهران المنحى الأفقي.
وتابع التقرير أن القوى نفسها التي شكلت التعبئة العراقية، أي السياسة الشخصية، والتحالفات الخارجية السهلة، ووفرة رصيد الحرب، هي ما دفع بغداد ايضا الى التصعيد عموديا، مما زاد من حدة الضغط على المدن الايرانية وشريان الحياة الاقتصادية، مشيرا إلى أنه مع حلول أواخر فبراير/شباط ومارس/آذار من العام 1988، كان العراق يطلق صواريخ سكود “الحسين” بعيدة المدى في دفعات مركزة، حوالي 189 صاروخا خلال 6 أسابيع، على طهران وقم واصفهان، الا ان القصف لم يضعف عزيمة المدنيين.
واضاف ان هذا الخيار اعتمد على الموردين الخارجيين والتمويل، حيث ان صواريخ سكود سوفيتية، وأدخلت عليها تعديلات عراقية، بالإضافة الى نظام لوجستي مدعوم بائتمان خليجي اوروبي.
وتابع ان العراق شن في نفس العام حرب الناقلات، وذلك بمساعدة فرنسية من 5 طائرات هجومية من طراز “سوبر ايتندارد” ومخزونات كبيرة من صواريخ “ايكزوسيت ايه ام 39” الفرنسية.
وأشار إلى أن العراق قام بتطبيع استخدام الاسلحة الكيميائية على نطاق واسع لصد الهجمات الجماعية الايرانية وارهاب المناطق الكوردية، مما ادى الى صدور ادانة في قرار مجلس الامن رقم 612 الا انه لم يحدث سوى القليل من المتابعة العقابية.
واضاف ان التقارير التي رفعت عنها السرية تشير الى تدفق المخابرات الاميركية ايضا الى بغداد في أواخر الحرب على الرغم من الإدراك باستخدام العراق للاسلحة الكيميائية، مما عزز تقديرات صدام بانه لن يواجه سوى عقوبة دولية محدودة.
وذكر التقرير ان القوى الثلاث نفسها، اي السياسة الداخلية، والتحالفات الخارجية، وتمويل الحرب، هي التي دفعت طهران نحو “التصعيد الأفقي”، حيث فضلت القيادة الثورية لطهران، المنقسمة بين الحرس الثوري والجيش النظامي، والمعزولة عن دعم القوى الكبرى، والمعتمدة على التمويل النقدي، اولا، استغلال دبلوماسية الرهائن في لبنان بعمليات الخطف لعشرات الغربيين التي قام بها حزب الله، بين عامي 1984 و1986، بمن فيهم رئيس محطة وكالة المخابرات المركزية في بيروت وليام باكلي.
ولفت التقرير الى ان عمليات الاختطاف فتحت قناة للاسلحة مقابل الرهائن حيث حصلت ايران على 504 صواريخ تاو المضادة للدبابات عبر اسرائيل في العام 1985 كما باعتها الولايات المتحدة بشكل مباشر 1000 صاروخ تاو في شباط/فبراير 1986، بالإضافة إلى قطع غيار الدفاع الجوي، وهو ما تحول الى فضيحة لواشنطن، والمعروفة باسم قضية “إيران كونترا”.
وبحسب التقرير، فإن عناصر القوة الثلاث نفسها، أي السياسة الداخلية، والتحالفات الخارجية، وتمويل الحرب هي التي شكلت خيار صدام حسين بعد الحرب بغزو الكويت حيث كانت الميزانية العامة للعراق في حالة يرثى لها، إذ مولت بغداد الحرب بشكل كبير بالقروض الائتمانية، وكانت مدينة بحوالي 37 مليار دولار لدول الخليج، بما في ذلك حوالي 14 مليار دولار للكويت، وهي دولة دائنة اتهمها صدام بالافراط في انتاج النفط، وخفض الأسعار، وحتى سرقة حقل الرميلة النفطي، وطالبها بشطب الديون، مهددا الدولة الدائنة الثانية اي السعودية.
ورأى التقرير أن صدام قرأ البيئة الخارجية على انها متساهلة، موضحا أنه في يوليو/تموز 1990، أخبرته السفيرة الاميركية ابريل غلاسبي، وفق النص العراقي المقتبس وقتها، “ليس لدينا رأي في النزاعات العربية-العربية، مثل خلافكم الحدودي مع الكويت”، وهو ما فهم على أنه ضوء أخضر، وإن لم يكن مقصودا، وفي غضون اسابيع عبر صدام بقواته الى الكويت.
واضاف ان الطريق انتقل من تحرير الفاو الى 2 اغسطس/اب 1990 بغزو الكويت، عبر نفس القنوات التي صاغت سلوك العراق في زمن الحرب: نظام يثمن مظاهر القوة، ورعاته، وغموض القوى العظمى الذي اعتقد أنه قادر على استغلاله، وديون متراكمة ما جعل الإكراه يبدو ارخص من السداد.
وعلى النقيض من ذلك، قال التقرير إن دافع طهران بعد انتهاء الحرب، كان بناء قوة صامدة، حيث رسخت الحرب الحرس الثوري كركيزة دائمة إلى جانب الجيش، وقدمت رواية “الدفاع المقدس” التي تثمن الصمود والاعتماد على الذات.
وتابع أن إيران، في ظل عزلتها عن رعاة القوى الكبرى وتقييدها بالعقوبات وتقلب التدفقات النقدية، استثمرت في قدرات يمكنها التحكم فيها، وتوفيرها، وتوسيع نطاقها: مشروع الصواريخ الباليستية، وصناعة الطائرات المسيرة مبكرا منذ الثمانينيات، وشبكة الوكلاء التي أطلقت عليها فيما بعد اسم “محور المقاومة”، وبذلك تكون إيران قادرة على فرض تكاليف بعيدة عن حدود إيران بتكلفة مالية متواضعة.
وختم التقرير بالقول إن حرب إيران والعراق تعتبر بمثابة دراسة حالة ملفتة للعمليات الحربية الواسعة، اذ انها تظهر كيف تحدد السياسة الداخلية، والتحالفات الخارجية، وتمويل الحرب، التعبئة والتوظيف، وخيارات التصعيد، وتقديرات ما بعد الحرب.
واضاف ان هذه العوامل اثمرت قوة عراقية قائمة على القروض الائتمانية، تركز على الجودة أولا، واكراها عموديا، بينما اثمرت التعبئة الايرانية الممولة نقديا، والتي تركز على الكمية اولا، وضغطا افقيا.
واعتبر التقرير ان هذه المعطيات تساعد بشكل مفيد في فك رموز ديناميكيات الحرب الروسية -الأوكرانية، وتقدم رؤية للنظر في العمليات الحربية الواسعة مستقبلا، من أوروبا الى منطقة المحيطين الهندي والهادئ. واضاف انه عند التفكير في سيناريوهات الحرب الواسعة الحالية او المستقبلية، تطرح الاسئلة البارزة التالية: ما الذي يجب ان تظهره الانظمة السياسية للمقاتلين محليا؟ ما هي الجهات الخارجية التي ستؤيد خيارات المتحاربين او تقيدها او تعارضها؟ باي وسيلة – سواء اكانت ايرادات نقدية ام ائتمانا ام قدرة صناعية، سيمولون القوة القتالية المتكررة؟
ولهذا، رأى التقرير ان حرب ايران والعراق تستحق أن تدرس في التعليم والتخطيط العسكريين، ليس لمراجعة حرب العام 1988، وانما من اجل بلورة المؤشرات، وافتراضات مناورات العاب الحرب، ونقاط اتخاذ القرار في الصراعات الحالية والناشئة.