يؤكد أربعة مراقبين أن قرار العراق مؤخراً بتعليق عقد استيراد الغاز – لتشغيل محطات الكهرباء – من تركمانستان عبر الأراضي الإيرانية، لم يكن مفاجئاً، نظراً لأن إيران كانت ستستفيد من جزء من الغاز، وهو ما تعتبره واشنطن خرقاً مباشراً للعقوبات المفروضة على طهران.
ورغم محاولات بغداد لتقديم ضمانات تشمل مراقبة دولية للصفقة، إلا أن الرفض الأمريكي جاء ليضع العراق أمام أزمة طاقة جديدة دون حلول جاهزة، كاشفاً هشاشة أمن الطاقة المحلي وارتهانه للتجاذبات الإقليمية والدولية.
وبحسب الاتفاق، فقد كان من المقرر أن يُمكّن العراق من استيراد نحو خمسة مليارات متر مكعب من الغاز التركمانستاني سنوياً، على أن تحتفظ إيران بما يصل إلى 23% من إجمالي الكمية الغازية اليومية، دون مقابل نقدي، لتغذية احتياجاتها المحلية.
واعتبرت الولايات المتحدة الأمريكية أن هذه الصفقة تشكل خرقاً للعقوبات المفروضة على إيران، وسط حملة مستمرة للضغط على طهران اقتصادياً.
وهذا التجميد ليس الأول من نوعه، بل يتكرر مع كل مشروع أو اتفاق يتداخل مع الجغرافيا الإيرانية أو يتقاطع مع العقوبات الأمريكية.
ويعتمد العراق منذ سنوات طويلة على استيراد الكهرباء والغاز من إيران، وخاصة في ذروة فصل الصيف، ويعتمد بذلك على الإعفاءات الأمريكية المستمرة، والتي تصدر أكثر من مرة خلال كل عام.
فيما تحاول الحكومة العراقية إنهاء هذا الاعتماد الخارجي، حيث أكد رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني في نيسان/ أبريل 2025 أن محطات الكهرباء كافة ستعمل على الغاز العراقي في نهاية العام 2027، لكن إلى ذلك الحين يبدو أن مشهد الطاقة سيبقى متأزماً دون حلول أو بدائل سريعة.
افتقار إلى البدائل السريعة
وفي هذا السياق، يقول الخبير النفطي العراقي حمزة الجواهري إن قرار الحكومة العراقية بتعليق عقد استيراد الغاز من تركمانستان عبر الأراضي الإيرانية لم يكن مفاجئاً، مشيراً إلى أن إيران كانت ستستفيد من جزء من الغاز لأغراضها المحلية، ما يتعارض مع العقوبات الأمريكية المفروضة على طهران.
ويوضح الجواهري أن مرور الغاز عبر إيران يمنحها حق الحصول على نسبة من الإمدادات دون مقابل مالي مباشر، وهو ما كان سبباً كافياً لتوقع اعتراض أمريكي على تنفيذ الصفقة.
لكن كان من المفترض أن يضع العراق بدائل جاهزة لهذا النوع من الأزمات، وفق الجواهري، “إلا أن الواقع يكشف عن غياب حلول عملية وسريعة، ما يعكس خللاً واضحاً في التخطيط الطاقوي، وسينعكس سلباً على مستوى تجهيز الكهرباء للمواطنين، وعلى الاقتصاد الوطني بشكل عام”.
ويتابع الجواهري أن العراق يعمل حالياً على معالجة الغاز المصاحب الذي يُحرق في الحقول النفطية، معرباً عن أمله في أن تسهم هذه الجهود في تقليص الاعتماد على الغاز المستورد، سواء من إيران أو من دول أخرى.
ويستدرك بالقول إن هذه المشاريع، حتى وإن تم تسريعها، لن تكون كافية لتغطية الطلب المتصاعد على الطاقة، ما يستدعي تطوير الحقول الغازية بشكل عاجل، إلا أن “البيروقراطية والعقبات الإدارية ما تزال تشكل عائقاً كبيراً أمام تنفيذ هذه الخطط بشكل فعال وسريع”، على حد تعبيره.
أزمة متجذرة في السياسة
من جهتها، تؤكد عضو لجنة النفط والغاز النيابية، انتصار الجزائري، أن انقطاع إمدادات الغاز من إيران ساهم بشكل مباشر في تفاقم أزمة الطاقة داخل العراق.
وتشير الجزائري إلى أن البلاد لا تزال بعيدة عن تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغاز، رغم توقيع جولة التراخيص الخامسة التي أطلقتها وزارة النفط العام الماضي، والتي تهدف إلى استثمار الغاز المحترق وتقليل الهدر.
لذلك تُقرّ النائبة على أن “الاستيراد يبقى خياراً ضرورياً في الوقت الحاضر للسيطرة على الأزمة، وبالتالي العراق مضطر للتوجه نحو دول مستقرة اقتصادياً لعقد اتفاقات طويلة الأمد تضمن استمرارية تأمين الوقود اللازم لمحطات توليد الكهرباء”.
وترى أن الحكومة تسعى جاهدة إلى إبعاد البلاد عن أزمات المنطقة المتشابكة، لكنها تواجه تحديات كبيرة، على رأسها ما وصفته بـ”التدخل الأمريكي في الشأن الاقتصادي والسياسي العراقي”، ما يعرقل مساعي العراق لبناء استقلاله الطاقوي ويُبقيه مرتهناً لقرارات خارجية.
ووفقاً للجزائري، فإن السياسة الأمريكية تفرض شروطاً وسياقات تخدم مصالحها الإقليمية، وهو ما يزيد من تعقيد المشهد العراقي، لا سيما في ظل بنية تحتية طاقوية غير مكتملة.
وبناءً على ما سبق، تعتبر النائبة أن “أزمة الكهرباء لم تعد فنية فقط، بل أصبحت أزمة سياسية بامتياز، ما يعني أن بقاءها مرهون بتقلبات الخارج، وستستمر تداعياتها على حياة المواطنين واقتصاد البلاد ما لم يُعاد النظر في مسار السياسات الطاقوية الوطنية”.
ضغط خارجي وفرصة داخلية
من جانبه، يرى أستاذ الاقتصاد الدولي نوار السعدي أن القرار الأمريكي لا يمكن فصله عن سياق الصراع الجيوسياسي في المنطقة، خصوصاً أن واشنطن تحاول ضبط منافذ الطاقة ومنع إيران من أي منفذ اقتصادي تحت غطاء التعاون الإقليمي.
ويبيّن السعدي أن “العراق يستورد من إيران قرابة ثلث احتياجاته من الغاز والكهرباء، وفي حال تعطلت البدائل، فإننا نتجه نحو مزيد من ساعات القطع وضغط على المالية العامة”.
لكن السعدي لم يُغفل وجود خيارات أمام العراق، على رأسها استثمار الغاز المصاحب المحترق، الذي تقدر كمياته بأنها تكفي لتغطية نصف الاستهلاك المحلي، فضلاً عن إمكانية استيراد الغاز المسال من دول مثل قطر أو عُمان، رغم ارتفاع التكاليف.
وفي ظل الظرف الحالي، فإن “العراق اليوم أمام لحظة اختبار؛ فإما أن يتحول هذا الضغط إلى فرصة لبناء استقلال طاقوي، أو يبقى في دوامة الأزمات الموسمية والتبعية الاقتصادية”، يقول السعدي.
حلول مؤقتة وانتظار دائم
أما الخبير الاقتصادي مصطفى الفرج، فيقترح بدوره منح استثناء مؤقت للعراق من قبل الحكومة الأمريكية لاستيراد الغاز لمدة عام، بشرط وجود رقابة دولية، لضمان عدم انتهاك العقوبات أو تمويل طهران بشكل غير مباشر.
ويعتقد الفرج أن “هذا الحل المؤقت يمكن أن يمنح العراق وقتاً ثميناً لتفعيل مشروعات الغاز المحلي، وتحسين البنى التحتية، وتحقيق استقرار نسبي في قطاع الكهرباء”.
لكن الخبير الاقتصادي يحذر من خطورة استمرار الوضع الحالي بين مدّ وجزر، قائلاً إن “أزمة الطاقة لم تعد مجرد أزمة فنية، بل هي أزمة إنسانية واقتصادية وأمنية، وإذا لم تُعالج سريعاً، فقد نشهد انهياراً أوسع في الخدمات الحيوية”.