الوثيقة | مشاهدة الموضوع - صراع أبناء العم: مواجهة عائلية تتحول إلى أزمة سياسية في كردستان العراق
تغيير حجم الخط     

صراع أبناء العم: مواجهة عائلية تتحول إلى أزمة سياسية في كردستان العراق

مشاركة » السبت أغسطس 30, 2025 11:34 pm

3.jpg
 
فجر يوم الجمعة 22 آب/أغسطس 2025، تحولت مدينة السليمانية، ثاني أهم مدن إقليم كردستان العراق، إلى ساحة مواجهة عسكرية، إثر اعتقال القيادي الكردي لاهور شيخ جنكي، ابن شقيق الرئيس العراقي الراحل جلال طالباني، وزعيم حزب «جبهة الشعب». العملية الأمنية التي نُفذت بأوامر «قضائية»، وبدعم «قوات خاصة» مدججة بالسلاح الثقيل، انتهت باعتقال لاهور وشقيقيه بولاد وآسو، بعد اشتباكات دامية مع مسلحين من الميليشيا التابعة له والمعروفة باسم قوات «العقرب».
الاشتباكات استمرت ساعات قرب فندق «لاله زار» المملوك لشيخ جنكي والذي كان يتحصن به وسط المدينة، وأسفرت عن مقتل ما لا يقل عن خمسة أشخاص، بينهم ثلاثة من القوات الأمنية، وإصابة نحو 18 آخرين، بحسب بيانات متطابقة من السلطات المحلية وحزب جبهة الشعب.

من مذكرة توقيف إلى معركة

بدأت فصول المواجهة في السليمانية قبل أيام قليلة من الهجوم الكبير على فندق «لاله زار»، حيث ساد توتر أمني بعد احتجاجات شعبية قمعتها القوات الأمنية، ما أثار مخاوف من اهتزاز داخلي في معاقل الاتحاد الوطني الكردستاني. ومع تصاعد الشكوك بشأن تحركات لاهور شيخ جنكي وبعض المقربين منه، حيث اتهم بافل طالباني خصمه بالتخطيط لاغتياله بهجوم بطائرة مسيّرة، وهي رواية نفى لاهور صحتها، معتبراً ما يجري صراعاً داخل الاتحاد الوطني على النفوذ.
في 20 آب/أغسطس، توجه بافل طالباني إلى بغداد حيث أطلع حكومة بغداد وسفراء الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، على خطته لاعتقال ابن عمه. عاد مساءً إلى مقر الاتحاد الوطني الكردستاني في دباشان وسط حماية مشددة ومواكب مدججة بالسلاح. في اليوم التالي، أغلقت القوات الأمنية مداخل السليمانية وفرضت رقابة صارمة على الطرق، فيما جرى حشد وحدات مكافحة الإرهاب والكوماندوز والسوات مزودة بمدرعات ومدفعية وطائرات مسيّرة استعداداً للهجوم.
داخل فندق «لاله زار» تحصّن نحو 200 مقاتل إلى جانب بولاد شيخ جنكي، شقيق لاهور، وقيادات أخرى، لكن الدعم المتوقع من حلفاء لاهور لم يصل. حاول لاهور التواصل مع مسؤول القوات الأمنية «الأسايش» في السليمانية للاستفسار عن طبيعة الهجوم، فأُبلغ أن هناك مذكرة اعتقال بحقه وطُلب منه الاستسلام. وقيل إن بافل طالباني تدخل هاتفياً لإقناعه، غير أن لاهور رفض، مهدداً: «ستدفعون الثمن إن جئتم».
مع حلول الثالثة والنصف فجراً في 22 آب/أغسطس اندلعت المعركة. استمرت الاشتباكات أكثر من ثلاث ساعات، استخدمت فيها القوات المهاجمة الطائرات المسيّرة والمدفعية، فيما قاوم المدافعون حتى نفدت ذخيرتهم. أخيراً، قصفت المسيّرات «لاله زار»، ما مهد الطريق لاقتحام الكوماندوز. عندها جرى اعتقال لاهور وهو يحاول مساعدة شقيقه المصاب، لتُطوى صفحة مواجهة عائلية تحولت إلى معركة حقيقية في قلب مدينة السليمانية.
وذكر برهان شيخ رؤوف، وهو مسؤول في الاتحاد الوطني الكردستاني، أن قوات الأمن نفذت عملية كبيرة خلال الليل لاعتقال لاهور شيخ جنكي، بموجب قانون مكافحة الإرهاب العراقي. وأوضح رؤوف؛ أن «شيخ جنكي كان يخطط لتنفيذ عمليات ضد الحكومة وإثارة الفوضى»، مشيراً إلى أن العملية جاءت في إطار جهود لتطبيق القوانين التي تحظر على الأحزاب السياسية الاحتفاظ بأجنحة مسلحة. من جانبها وصفت ديلسوز زنكنة، المرشحة عن حزب جبهة الشعب، العملية بأنها «انقلاب داخلي» جرى بأسلحة ثقيلة في قلب مدينة مكتظة بالسكان، وقالت: «لقد استخدموا أسلحة ثقيلة مثل الهاونات والرشاشات الثقيلة (دوشكا) والطائرات المسيّرة والدبابات لمهاجمته، لذلك ردّت قواته دفاعاً عن نفسها». وأضافت زنكنة أن المداهمة التي شاركت فيها عدة أجهزة أمنية أرعبت السكان في المنطقة المكتظة حول فندق «لاله زار» حيث تحصن لاهور شيخ جنكي مع حلفائه السياسيين، مشيرةً إلى أن بعض منازل المدينة تضررت خلال القتال. وتابعت: «كان هناك العديد من العائلات والأطفال الذين شهدوا هذه الأحداث وظلوا مرعوبين طوال الليل».

من الشراكة إلى العداء

لاهور شيخ جنكي وبافل طالباني كانا شريكين في قيادة الاتحاد الوطني الكردستاني، بعد وفاة جلال طالباني عام 2017. ففي 2020 أصبحا رئيسين مشتركين للحزب، قبل أن يُقصى لاهور في 2021 إثر اتهامات بمحاولة تسميم بافل، ومنذ ذلك الحين تصاعدت القطيعة بينهما.
شيخ جنكي أسس في 2024 حزب «جبهة الشعب»، محاولاً استقطاب المعارضين للحزبين التقليديين؛ الاتحاد الوطني والحزب الديمقراطي الكردستاني، وشارك في انتخابات برلمان الإقليم، فيما عزز بافل سيطرته على الأجهزة الأمنية والاستخباراتية للحزب، مستندًا إلى دعم داخلي وإقليمي.
رغم المظاهر القانونية التي أحيطت بعملية اعتقال لاهور شيخ جنكي، فإن جوهر الصراع بين أبناء العم في عائلة الطالباني لا يخرج عن كونه مواجهة ميليشياوية تشبه إلى حد كبير صراعات «الأغوات» على المغانم أو نزاعات أمراء الحرب على السلطة والنفوذ. فالأمر أبعد ما يكون عن تنافس برامجي أو اختلاف سياسي داخل أطر دستورية وقانونية، إذ إنه صراع بين شبكات مسلحة واقتصادية وعائلية تتحكم بمصير نصف إقليم كردستان العراق خارج أي مرجعية قانونية أو دستورية. وبهذا المعنى، فإن السليمانية لم تشهد مجرد خلاف داخل حزب سياسي، بل صراعاً بين إقطاعيات مسلحة يتنازعها أولاد العم، حيث يختفي القانون ويُختزل الحكم في موازين القوة ومن يملك السلاح الأكثر ولاءً والأقدر على فرض الأمر الواقع.
ويمكننا القول إن الصراع بين بافل ولاهور ليس مجرد خلاف سياسي، بل هو امتداد لانقسام عائلي داخل أسرة جلال طالباني. فبينما يمثل بافل جناح «المركز» المسيطر على الاتحاد الوطني الكردستاني، يستند لاهور إلى رصيد تاريخي في الأجهزة الأمنية والاستخباراتية (مكافحة الإرهاب ـ زانياري) ودور بارز في الحرب ضد «داعش».
بافل، الذي قضى سنوات شبابه في لندن، يميل إلى اعتماد سياسة أكثر براغماتية وتحالفات إقليمية مع إيران، في حين يُنظر إلى لاهور باعتباره أقرب إلى الولايات المتحدة وبعض الدوائر الغربية. هذا الانقسام العائلي/السياسي جعل من الصراع بينهما معركة وجودية على مستقبل الحزب والمدينة.
ويبدو أن إقصاء لاهور شيخ جنكي وتفكيك قوته المسلحة وحزبه الناشئ لم يكن مجرد إجراء قانوني أو أمني، بل اجتثاث سياسي يهدف قبل كل شيء إلى تكريس الهيمنة المطلقة لبافل طالباني والاتحاد الوطني الكردستاني على مدينة السليمانية، باعتبارها مركز ثقل نفوذ الحزب. كما أن هذه الخطوة تحمل في طياتها محاولة واضحة لتحجيم المنافسة التي تمثلها الأحزاب الصاعدة مثل الجيل الجديد وحركة التغيير، ومنع أي قوى ثالثة من كسر الثنائية التقليدية الحاكمة للمشهد الكردي والمتمثلة في الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني. وإلى جانب ذلك، فإن العملية بعثت برسالة ردع صريحة إلى أي تيار داخلي قد يفكر في تحدي سلطة بافل طالباني أو تهديد موقعه داخل الحزب والإقليم.

ردود الفعل
المحلية والدولية

الحكومة العراقية في بغداد وقفت موقف المتفرج، وأبدت «أسفها» للأحداث، داعيةً إلى تطبيق القانون «بحيادية تامة وشفافية كاملة بعيدًا عن الترهيب»، فيما شددت حكومة إقليم كردستان في أربيل على ضرورة «حل الخلافات عبر القانون لا العنف». ممثلية الأمم المتحدة في العراق أعربت عن «قلق بالغ» إزاء سقوط ضحايا مدنيين، وحذرت من أن استمرار العنف قد يهدد الاستقرار النسبي الذي ينعم به الإقليم مقارنة ببقية مناطق العراق.
أما في الشارع الكردي، فقد أثارت العملية موجة صدمة، إذ بدت كـ«تصفية حسابات عائلية» جرت باستخدام أجهزة الدولة والحزب، وأعادت إلى الأذهان ذكريات الاقتتال الكردي في تسعينيات القرن الماضي.
على الصعيد الإقليمي والدولي، فقد كشفت أحداث السليمانية عن شبكة مصالح متداخلة تتجاوز حدود المدينة. فإيران تُعد المستفيد الأكبر من تعزيز نفوذ بافل طالباني، بحكم علاقاته المتينة مع طهران والفصائل المسلحة المقربة منها، وهو ما يمنحها ثقلاً أكبر في مواجهة نفور أربيل بقيادة البارزاني من السياسات الإيرانية.
أما تركيا، فتابعت التطورات بقلق بالغ، إذ رأت في أي تمدد لنفوذ الاتحاد الوطني الكردستاني تهديداً مباشراً، لاسيما وأن مناطقه تؤوي مقاتلي حزب العمال الكردستاني «PKK»، الأمر الذي قد يدفع أنقرة إلى استغلال الأزمة لتكثيف ضغوطها العسكرية شمال الإقليم. في المقابل، عبّرت الولايات المتحدة عن انزعاج واضح من توقيت العملية، الذي تزامن مع انسحاب قوات التحالف من العراق، ما يبرز هشاشة الوضع الأمني في منطقة طالما اعتبرتها واشنطن شريكاً استراتيجياً. وعلى الضفة الأخرى، اكتفت بعض الدول الأوروبية بالدعوة إلى ضبط النفس وحماية المدنيين، في إشارة إلى خشيتها من انزلاق الأوضاع نحو سيناريوهات اقتتال داخلي شبيهة بما شهده الإقليم في تسعينيات القرن الماضي.

التداعيات المستقبلية

على مستوى السليمانية، تبدو سيطرة بافل طالباني مرشحة للترسخ أكثر بعد إقصاء خصومه، غير أن ذلك يأتي بثمن باهظ يتمثل في تعميق الانقسام الاجتماعي بين أنصاره وبين مؤيدي لاهور شيخ جنكي، الأمر الذي يثير مخاوف من اندلاع مواجهات متقطعة أو حتى عمليات اغتيال سياسية في المستقبل. وعلى مستوى الإقليم ككل، فإن الأزمة الأخيرة أضعفت صورة كردستان كـ«واحة استقرار» في العراق، وألقت بظلال ثقيلة على المفاوضات الجارية بين الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني بشأن تشكيل حكومة الإقليم، بما يفتح الباب أمام مزيد من التعقيدات. أما على مستوى العراق، فإن الصراع يعقّد المشهد الكردي قبيل الانتخابات البرلمانية المقبلة، ويضعف الجبهة الكردية في بغداد، ما قد ينعكس سلباً على توازنات السلطة مع القوى الشيعية والسنية، ويزيد من هشاشة العملية السياسية برمتها.
المشهد المقبل في السليمانية مفتوح على ثلاثة سيناريوهات رئيسية، يختلف كل منها في عمقه وتأثيره. السيناريو الأول هو الحسم، حيث يواصل بافل طالباني اعتقال لاهور شيخ جنكي وتفكيك حزبه وقواته بشكل كامل، بما يعزز قبضته الأمنية والسياسية على المدينة ويقصي خصومه نهائياً، لكنه يحمل في طياته مخاطر انفجار الاحتقان الشعبي. أما السيناريو الثاني فهو التسوية، إذ قد تتدخل أطراف داخلية أو إقليمية، وربما الأمم المتحدة، لفرض صيغة اتفاق تُبقي على شيخ جنكي أو بعض رجاله في المشهد ولكن بشروط صارمة، بما يمنح العملية غطاءً سياسياً ويمنع انزلاق الأوضاع إلى صراع مفتوح. أما السيناريو الثالث فهو الأكثر خطورة، وهو الانفجار، حيث قد تؤدي الضغوط المتراكمة والانقسامات الاجتماعية إلى اندلاع مواجهات مسلحة أوسع، وربما اقتتال أهلي يعيد الإقليم إلى مشاهد التسعينيات، بكل ما يحمله ذلك من تداعيات مدمرة على استقرار كردستان والعراق عموماً.
ما جرى في السليمانية لم يكن مجرد «تنفيذ مذكرة توقيف»، بل محطة مفصلية تكشف عمق الصراع داخل بيت الطالباني، وكيف تحوّلت المنافسة السياسية إلى مواجهة عسكرية تهدد استقرار واحدة من أهم مدن إقليم كردستان. الصراع بين بافل ولاهور ليس صراع أشخاص فحسب، بل هو صراع على الشرعية، والنفوذ، وتوجه الإقليم بين المحاور الإقليمية والدولية.
وبينما يسعى بافل إلى فرض سيطرة أحادية على الحزب والمدينة، فإن لاهور ما زال يمثل تيارًا لا يمكن استئصاله بسهولة. المستقبل القريب سيُظهر إن كانت السليمانية مقبلة على مرحلة استقرار قسري تحت قبضة بافل، أم على جولة جديدة من الصراعات تعيد الإقليم إلى مربع الاقتتال الداخلي.
العناوين الاكثر قراءة









 

العودة إلى تقارير

cron