الوثيقة | مشاهدة الموضوع - محنة الديمقراطية العراقية : يحيى الكبيسي
تغيير حجم الخط     

محنة الديمقراطية العراقية : يحيى الكبيسي

مشاركة » الجمعة نوفمبر 26, 2021 11:42 am

لم تكن القوى السياسية العراقية التي جاءت رفقة الاحتلال الأمريكي، أو تلك التي لحقت به، تؤمن بالديمقراطية! فقد كان الإسلام السياسي بشقيه الشيعي والسني يعدّها «كفرا ورجسا من عمل الشيطان» او في أحسن الأحوال «بدعة» ومؤكد أن كل بدعة ضلالة! جاء في أحد أدبيات حزب الدعوة الإسلامية أن الديمقراطية «مصطلح سياسي يحمل فكراً ومضموناً ومدلولاً يتعارض مع فكر الإسلام وروحه يجب رفضه وعدم استعماله»! وفي أحسن الأحوال كان لبعضهم تمثلاته الخاصة عنها، تماما كما كانت تمثلات الحزب الشيوعي العراقي في نهاية الخمسينيات لمفهوم الديمقراطية حين رفعوا شعار «ديمقراطية وسلام» للتسويق لديكتاتور جاء بانقلاب عسكري، والتنظير لاحتكار السلطة، والتسويغ لما قام به من إلغاء للأحزاب وللانتخابات،، وممارسة سياسة الإقصاء والتطهير بلا رحمة، وسحق من سموهم بالمتآمرين والرجعيين بسلاح «المقاومة الشعبية» ونظرية «شد البرغي حتى آخر سن لها» (المصطلحات مقتبسة من بيانات الحزب الشيوعي حينها!) والتأسيس لجمهورية «ديمقراطية» يقودها «الزعيم الأوحد»!
لكن هذه الأحزاب اضطُرّت للقبول بالديمقراطية التي اشترطها الأمريكيون قسرا على الجميع، مع إعادة «تكييفها» وتحويلها إلى مجرد «أداة» للوصول إلى السلطة عبر الانتخابات حصرا، وليس عبر منظومة قيمية متكاملة، ومن ثم إلى شكل لا يحيل إلى أي محتوى حقيقي.
إن مراجعة البنى التنظيمية لهذه الأحزاب ومقولاتها، تكشف أنها لا تزال تدور في منطقة رمادية خالصة فيما يتعلق بالديمقراطية؛ فعلى المستوى التنظيمي نجد غيابا للديمقراطية في بنية هذه الأحزاب نفسها، وعلى رأسها فكرة تداول السلطة، ومشاركة القواعد(هذا في حال وجودها أصلا) في صنع القرار. بل هناك عدم إيمان كامل بالمقولات الديمقراطية لدى أعلى المستويات، وهو ما عكسته الانشقاقات داخل الأحزاب بعد كل عملية إعادة توزيع للسلطات داخل المكاتب السياسية لهذه الأحزاب؛ فقد انشق الدكتور إبراهيم الجعفري عن حزب الدعوة عقب قيام الحزب بتعديل النظام الداخلي، واستحداث منصب الأمين العام للحزب الذي فاز به السيد نوري المالكي. وانشق السيد طارق الهاشمي عن الحزب الإسلامي بعد المؤتمر الذي انتخب فيه الدكتور أسامة التكريتي أمينا عاما جديدا للحزب. وما عكسته أيضا سياسة التوريث داخل بعض الكيانات السياسية التي تعتمد على البنى العائلية ذات الرمزية الدينية أو الرمزية التاريخية، كما هو الحال مع المجلس الأعلى الإسلامي (محمد باقر الحكيم، ثم الأخ عبد العزيز الحكيم، ثم الابن عمار الحكيم) أو الحزبين الكرديين الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني (مصطفى البارزاني ثم الابن مسعود البارزاني، وجلال الطالباني ثم قيادة مشتركة ضمن الأبن وابن الأخ قبل أن ينقلب الأول على الثاني ويرث قيادة الحزب منفردا) والمفارقة أن سياسة التوريث هذه اتبعتها بعض الأحزاب الليبرالية أيضا (نصير الجادرحي ورث زعامة الحزب الوطني الديمقراطي عن أبيه كامل الجادرجي على الرغم من أنه لم يكن منتميا إلى الحزب أصلا). وهناك قيادات لأحزاب تاريخية تفردت بزعامة احزابها حتى وفاتها (ظل الراحل جلال الطالباني أمين عام الاتحاد الكردستاني منذ تأسيسه العام 1975 إلى لحظة وفاته في العام 2017. وظل عزيز محمد سكرتيرا للجنة المركزية للحزب الشيوعي على مدى 30 عاما (1963- 1993) وبقي خليفته حميد مجيد موسى يتولى هذا المنصب بين عامي 1993 ـ 2016، وما يزال عبد الإله النصراوي زعيما للحركة الاشتراكية العربية منذ عقود).

ليس ثمة خيار في العراق، حتى اللحظة، بين أسود ورمادي، بل كان الخيار دائما بين الأسودين، وهو أمر واقع يدركه العراقي جيدا ويدرك أيضا أنه لا مناص من تغيير بنية النظام السياسي الذي لا يؤمن بالديمقراطية كي يتحقق التغيير الحقيقي

ومن الواضح أن هذه الظاهرة أصبحت عامة لدى الأحزاب/الكيانات السياسية اللاحقة، والتي صارت تعرف باسم الزعيم المؤسس لها، أو بالأحرى المالك الرسمي لها ( حركة الوفاق باسم أياد علاوي منذ العام 1991، المؤتمر الوطني العراقي باسم أحمد الجلبي منذ العام 1992 حتى وفاته في العام 2015). أما التشكيلات السياسية التي ظهرت بعد نيسان 2003، فلا تعدو أن تكون تنظيمات ذات بنى دينية/ عقائدية تتعارض، بالتعريف، مع مفهوم الديمقراطية (التيار الصدري وحزب الفضيلة) أو تنظيمات تتمركز حول شخصيات تملك القدرة على التمويل أو ذات روابط طائفية أو عشائرية، وهي بطبيعتها براغماتية ودائمة التحول لأنها لا تقوم على أسس فكرية أو أيديولوجية.
منذ حالة الجزائر، ثم مصر، ثم تونس، التي شهدت انقلابات عسكرية أو مدنية، بمباركة دولية، على المسار الديمقراطي الذي أوصل الإسلاميين إلى الحكم، تكرست مقولة أن الإسلاميين لا يؤمنون بالديمقراطية، وأنهم يستخدمون الآليات الديمقراطية للوصول إلى الحكم ثم تفريغ تلك الديمقراطية من محتواها لاحقا! ولكن المعضلة التي يسكت عنها الجميع أن الأحزاب غير الإسلامية، ولا أستطيع أن أصفها بالليبرالية، لم تقدم حتى اللحظة نموذجا مختلفا، بل قدمت نماذج أكثر سوءا ! ويبقى العراق حالة استثنائية، حيث يبدو العالم أجمع منسجما مع هيمنة أحزاب الإسلام السياسي على الدولة، وتواطؤ المجتمع الدولي على «التغطية» على كل ما يحدث في العراق، مما يتناقض مع المبادئ الجوهرية للديمقراطية، يبدو أيضا جليا!
في انتخابات العام 2014 برزت ظاهرة ما أطلق عليه «القوى المدنية» في العراق، وقد استطاعت هذه القوة أن توصل للبرلمان ثلاثة نواب في العام 2014، و3 نواب في العام 2018، ولكن هذه التجربة لم تستطع لا إثبات نفسها، ولا التحول إلى نموذج يمكن البناء عليه، وتجسد هذا الفشل في انتقال أغلبية النواب الذين فازوا على قوائم القوى المدنية إلى قوى دينية أو ذات بنى عشائرية/ مناطقية (انتقال علي زيني بعد الفوز إلى التيار الصدري، وانتقال النائب أحمد الجبوري إلى كتلة الجماهير العربية).
في الانتخابات الأخيرة فاز العديد من المستقلين بعضوية مجلس النواب، ويعتقد الكثيرون أن هذا الفوز يشكل ظاهرة إيجابية، لكني ما زالت أعتقد أنه من المبكر الحكم على مخرجات هذا الفوز، لاسيما في امكانية أن يشكل هؤلاء الفائزون نموذجا مختلفا، تحديدا فيما يتعلق بمدى قدرتهم على الصمود في سياق بنية النظام الكلبتوقراطي ـ الزبائني الحاكم في العراق!
ليس ثمة خيار في العراق، حتى اللحظة، بين أسود ورمادي، بل كان الخيار دائما بين الأسودين، وهو أمر واقع يدركه العراقي جيدا ويدرك أيضا أنه لا مناص من تغيير بنية النظام السياسي الذي لا يؤمن بالديمقراطية كي يتحقق التغيير الحقيقي!
العناوين الاكثر قراءة









 

العودة إلى المقالات

cron