الوثيقة | مشاهدة الموضوع - سد النهضة كمسألة شخصية لأبي أحمد د. مدى الفاتح
تغيير حجم الخط     

سد النهضة كمسألة شخصية لأبي أحمد د. مدى الفاتح

مشاركة » الثلاثاء يونيو 22, 2021 10:15 am

حينما تتآكل الشرعية يلجأ حكام العالم الثالث، في كثير من الأحيان، لتثبيت حكمهم عبر تبني مشروعات كبيرة يرون أن بإمكانها أن تبرر بقاءهم، وأن تساعدهم على استعادة الشعبية المفقودة.
رأينا ذلك في منجز معمر القذافي، الذي ظل يحتفل به كمعجزة غير قابلة للانتقاد وهو يطلق عليه تسمية «النهر الصناعي العظيم». كلفت تلك المعجزة، بحسب التقديرات، ما يتجاوز35 مليار دولار، وتسببت بأضرار بيئية مركبة، إلا أن الديكتاتور الليبي بدا مهووساً بتحقيق حلمه.
الأمر نفسه تكرر مع الرئيس السوداني عمر البشير، الذي أصر على إنشاء «سد مروي» كمشروع حيوي كان يهدف بالأساس لحل مشكلة الإمداد الكهربائي. كما النهر العظيم كلف سد مروي، بالإضافة إلى الميزانية الضخمة والحاجة إلى الاستدانة من الصناديق الخارجية، الكثير من التكاليف البيئية، كما أثر بشكل سالب في السكان المحليين، الذين ما يزال الكثير منهم يرى أنه لم يتم تعويضهم بشكل مناسب.
كان الشعار يومها هو «الرد في السد» وكان يعني أن الرد على قرار «المحكمة الجنائية» القاضي بملاحقة الرئيس البشير، وعلى الاستهداف المعلن للنظام من قبل الدوائر الغربية، يتمثل في هذا السد الذي يدلل على أن في السودان حكومة مهتمة وقادرة على خلق إنجازات عظيمة رغم الحصار. مثلما كان الأمر مع نهر القذافي، كان التشكيك في جدوى مشروع السد، الذي أصبح أحد المزارات، التي يؤخذ إليها الزوار، ضرباً من الخيانة. النهاية لكلا المشروعين كانت تراجيدية، فلا النهر الليبي ظل متدفقاً وعظيماً، ولا سد مروي حقق ما كان مرجواً منه من استدامة في التيار الكهربائي. الأمثلة ذات الصلة هنا كثيرة، ورغم وجود كثير من الفوارق المعتبرة، إلا أنه لا يمكن رؤية أزمة «سد النهضة» إلا من هذا المنظور. نعني هنا أن القضية تحولت بالنسبة لرئيس الوزراء الإثيوبي وأركان حكمه من مجرد مشروع تنموي قابل للأخذ والرد، بالتشاور مع الجهات ذات المصلحة، وعلى رأسها شركاء النيل، إلى هوى شخصي غير مطروح للتفاوض أو التعديل. مشروع السد الإثيوبي قديم، لكن النقاش حوله لم يكتسب الحساسية التي نشعر بها تجاهه إلا من فترة قريبة، وذلك لعدة أسباب منها ما يتعلق بالدول الشريكة، مصر والسودان، ومنها ما يتعلق بالتطورات الداخلية في إثيوبيا نفسها.
عام 2011 كان عاماً مهماً انطلق فيه مشروع السد بشكل فعلي، لكن الدول العربية وعلى رأسها دولة المصب، مصر، كانت مشغولة بأحداث الانتفاضات الشعبية التي أخذت مسمى «الربيع العربي». مصر هبة النيل، التي تعتبر الأكثر تضرراً في حال نقصان المياه، أو تجاوز «الحقوق التاريخية»، كانت على مدى أعوام مشغولة بتثبيت الوضع السياسي الداخلي، وبعيدة عن التأثير الإقليمي، وهي للأسف، السنوات التي أصبح فيها السد أمراً واقعاً، وأصبحت فيه مساحة الاعتراض والمناورة ضيقة جداً.
السودان بدوره، كان بعيداً عن تلك الانتفاضات حينها، فلم تكن هي السبب الذي جعل المسؤولين لا يتابعون بشكل ضامن للمصالح الوطنية، مسار المشروع القريب من حدودهم. في المقابل كان البشير، المهووس دائماً بالمحكمة الجنائية، يرى في إثيوبيا حليفاً لا يمكن خسارته لتأثيرها القوي في الساحتين الدولية والافريقية، فلم يكن مستعداً لخسارة العلاقة التي جمعته بالقادة الإثيوبيين المتعاقبين تحت أي ذريعة. كان ذلك يفسر التعاطي البارد مع المشروع من الطرف السوداني، وتجاهل «الخبراء» الوطنيين للحقيقة التي لا تنكر، وهي أن الإثيوبيين لم يشركوا أحداً من دول الجوار في دراساتهم حول تأمين السد، وضمان تأمين تدفق المياه بحيث لا تنقطع عن دول المصب أو تقل بشكل مفاجئ. السودان لم يكتف فقط بأخذ موقف المشجّع لإثيوبيا فنياً ودبلوماسياً لخوض تجربة السد، ولكنه وللأسباب ذاتها، غض الطرف أيضاً عن تجاوزاتها الحدودية، ومحاولاتها التمدد داخل حدوده الشرقية. ذلك هو ما جعل الطرف المصري يشعر بأن السودان أصبح أكثر ميلاً لإثيوبيا، خاصة مع وجود أصوات هناك ظلت تؤكد على أن المصلحة السودانية هي في قيام السد.

حينما تتآكل الشرعية يلجأ حكام العالم الثالث، لتثبيت حكمهم عبر تبني مشروعات كبيرة يرون أن بإمكانها أن تبرر بقاءهم

في الأشهر الأخيرة تجاوزت الدول المعنية النقاش حول جدوى السد، لمساعي التفاوض حول مسألة ملئه والتحكم في مياهه، بدا الموقف الإثيوبي هذه المرة أقوى، فلم يعد بالإمكان إجبار أديس أبابا على شيء سوى أن تتكرم وتنسق مع شركائها من أجل أن لا تحدث كارثة مثل كارثة الفيضانات التي حدثت العام الماضي في السودان، والتي أدت إلى خسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات، بالإضافة إلى كوننا أصبحنا نتحدث عن أمر واقع، يتقوى الجانب الإثيوبي أيضاً بضعف محاوريه، فمن ناحية لا يبدو الموقف السوداني المصري موحداً بشكل كاف، ومن ناحية أخرى لا تتعامل الأطراف الحاكمة في الخرطوم بالحساسية ذاتها مع المسألة الإثيوبية. يجب أن نتذكر أن أديس أبابا والرئيس أبي أحمد بشكل خاص، كان لهما دور كبير في تشكيل الوضع السياسي الحالي في السودان، كما كان لرئيس الوزراء الإثيوبي أيضاً دور، مع أطراف دولية أخرى، في اختيار وتشكيل الطاقم المدني، ثم في صنع الدستور الذي تتحاكم إليه الفترة الانتقالية: «الوثيقة الدستورية».هذه العلاقة الفريدة من نوعها خلقت اقتراباً لا يخفى بين الشق الحكومي المدني والقيادة الإثيوبية، وقد ظهر هذا في الفتور الذي تعامل به المدنيون مع نزاع «الفشقة»، الذي أدى للدخول في عملية عسكرية لمواجهة المحاولة الإثيوبية لفرض سياسة التغول الحدودي كأمر واقع، وهو ما جعل أحد المعلقين الإثيوبيين يعلق قائلاً، إن الحرب هي مع عسكر السودان فقط. هذه هي الصورة التي حاولت وزيرة الخارجية السودانية الجديدة مريم المهدي تعديلها لتبدو أكثر تنسيقاً مع القيادة العسكرية في تصريحاتها وتحركاتها.
الجانب الإثيوبي يدخل المفاوضات من دون أن يكون راغبا بشكل جاد في تقديم أي تنازل، لا على مستوى ملء السد، ولا على مستوى الاشتراطات التنسيقية الأخرى المطلوبة من قبل الجانبين المصري والسوداني، في حين لا تتوقف قيادات رسمية في أديس أبابا عن إطلاق تصريحات استفزازية، أو ساخرة بشكل يجعل أي حوار فاشل سلفاً.
بدفع الأمور في هذا الاتجاه ينتظر أبي أحمد، الذي لا يملك من الناحية الدستورية أية شرعية، والذي يؤمن بشكل واضح بنبوءة والدته التي رأت فيه ملكاً على إثيوبياً، إحدى نتيجتين، فإما أن تقبل الأطراف الأخرى بمشروعه كما هو، بغض النظر عن تأثير ذلك في مصالحهم الوطنية والاستراتيجية، أو أن يدخل الجميع في حرب عالية التكلفة. في الحالتين ستكون الفائدة من نصيب القائد الإثيوبي، فسوف يكون من المبرر جداً بقاؤه في منصبه، سواء مكافأة له على استكمال الإنجاز؛ أو بذريعة أن البلاد دخلت في حالة حرب وفقا للقاعدة الشهيرة: «لا صوت يعلو فوق صوت البندقية». سيكون أيضاً من المبرر تأجيل الحديث عن عقد الانتخابات، أو عن أي تنزيل للمظاهر الديمقراطية الأخرى. المنطق يقول إن على أبي أحمد أن يتفادى الدخول في حرب موسعة، وأن يكون الأحرص على الحلول التفاوضية السلمية، فبلاده تعيش توترات سياسية وأزمات إنسانية مركبة، على رأسها أزمة إقليم التغراي التي لا يبدو أنها في طريقها إلى النهاية مع ما نتابعه من تصعيد، لكن من يكترث للمنطق حين يتعلق الأمر بكرسي السلطة؟
كاتب سوداني
العناوين الاكثر قراءة









 

العودة إلى المقالات