الوثيقة | مشاهدة الموضوع - نيويورك تايمز: وثائق سرية وشهادات تكشف خطط نظام الأسد لإخفاء جرائمه.. من تزوير السجلات والاعترافات إلى نقل المقابر الجماعية
تغيير حجم الخط     

نيويورك تايمز: وثائق سرية وشهادات تكشف خطط نظام الأسد لإخفاء جرائمه.. من تزوير السجلات والاعترافات إلى نقل المقابر الجماعية

مشاركة » الأربعاء ديسمبر 31, 2025 11:19 am

2.jpg
 
لندن- “القدس العربي”: وصل رؤساء الأجهزة الأمنية في مواكب من سيارات الدفع الرباعي السوداء إلى القصر الرئاسي لبشار الأسد، وهو متاهة من الرخام والحجر على تلة تشرف على دمشق.

كانت التسريبات حول المقابر الجماعية ومراكز التعذيب التابعة للنظام تتزايد، وكان كبار قادة سوريا يريدون إيقافها. لذلك، وفي خريف عام 2018، استدعوا قادة الأجهزة الأمنية المخيفة لدى الأسد لمناقشة سبل تحسين إخفاء آثارهم، بحسب شخصين اطّلعا على تفاصيل الاجتماع.

لم تكن أقوى الأجهزة الأمنية في دمشق متفقة دائمًا على إجراءات التستر، ولا يزال من غير الواضح ما إذا كانت هذه الممارسات موحدة في جميع الفروع الأمنية

واقترح أحد المسؤولين الأمنيين محو هويات السوريين الذين توفوا في السجون السرية من السجلات، بحسب الشخصين، نقلًا عمّا رواه مشاركون في الاجتماع. وبهذه الطريقة، لن يبقى أي أثر ورقي، كما قال المسؤول كمال حسن، الذي كان يدير أحد أكثر فروع الشرطة السرية السورية سوء سمعة، المعروف بفرع فلسطين. ووافق علي مملوك، كبير مستشاري الأسد الأمنيين، على دراسة الاقتراح.

وبعد أشهر من ذلك الاجتماع، بدأت الأجهزة الأمنية التدخل في الأدلة المتعلقة بجرائم النظام، وفق ما خلص إليه تحقيق لصحيفة “نيويورك تايمز.”

قام بعض المسؤولين الأمنيين بتزوير وثائق رسمية بحيث لا يمكن تتبع وفيات المعتقلين إلى الفرع الأمني الذي سُجنوا فيه وتوفوا داخله. وحذف بعضهم تفاصيل مثل رقم الفرع أو رقم تعريف المعتقل. كما أصدر كبار المسؤولين الحكوميين أوامر للأجهزة الأمنية بتلفيق اعترافات لمعتقلين توفوا أثناء احتجازهم. واعتبروا أن وجود اعترافات مكتوبة قد يوفر للنظام غطاءً قانونيًا لعمليات الموت الجماعي داخل السجون.

راجعت الصحيفة آلاف الصفحات من الوثائق السورية الداخلية، بما في ذلك مذكرات موسومة بعبارة «سري للغاية»، صُوِّر العديد منها داخل أكثر الفروع الأمنية السورية شهرةً بسوء السمعة، بعد أن أطاح المتمردون بحكومة الأسد العام الماضي. وكانت كثير من هذه الفروع الأمنية- المعروفة بأرقامها- تضم سجونًا داخل منشآتها.

كما أجرينا مقابلات مع أكثر من 50 مسؤولًا أمنيًا وسياسيًا، ومحققين، وحراس سجون، وأطباء شرعيين، وعاملين في المقابر الجماعية، وموظفين حكوميين آخرين، أسهم كثير منهم في التحقق من صحة الوثائق.

وعند جمع هذه الوثائق والشهادات، فإنها تقدم حتى الآن الصورة الأكثر شمولًا عن جهود النظام للتهرب من المساءلة عن نظامه القمعي واسع النطاق. كما تتيح نظرة نادرة على كيفية استجابة ديكتاتورية شديدة السرية في الوقت الحقيقي لعزلة وضغوط دولية متزايدة.

وخلال حكم الأسد، اختفى أكثر من 100 ألف شخص، وفقًا للأمم المتحدة، وهو عدد يفوق ما شهدته أي دولة أخرى منذ عهد النازيين. وتُظهر الوثائق أن الحكومة بذلت جهودًا معقدة- وأحيانًا مضنية- للتستر على ذلك. فقد عقد المسؤولون اجتماعات لمناقشة الرسائل الإعلامية، ووضعوا إستراتيجيات للتعامل مع عائلات المعتقلين، وقلقوا بشأن وثائق قد تُستخدم ضدهم إذا واجهوا الملاحقة القضائية يومًا ما.

ومع ذلك، ظهرت أدلة واسعة على الفظائع قبل سقوط النظام، بما في ذلك آلاف السجلات والصور للمعتقلين. وعلى الرغم من أن كبار المسؤولين لم يُحاسَبوا بعد على دورهم في هذه الجرائم، فقد أُدين عدد قليل من المسؤولين ذوي الرتب الأدنى. إذ أُلقي القبض على مسؤولين اثنين وحُكم عليهما بالسجن المؤبد في ألمانيا، كما صدرت مذكرات توقيف بحق آخرين.

وتُعد الأدلة الجنائية المشوشة والوثائق المزورة من بين العوامل العديدة التي تعقّد جهود ملاحقة كبار المسؤولين قضائيًا، ولا سيما عن الجرائم المرتكبة في السنوات الأخيرة من الحرب الأهلية الطويلة في سوريا.

تحدث معظم من قابلناهم شريطة عدم الكشف عن هوياتهم، خوفًا من الانتقام أو الاعتقال. ويعيش كثير منهم متخفين داخل سوريا وخارجها.

ولم تكن أقوى الأجهزة الأمنية في دمشق متفقة دائمًا على إجراءات التستر، ولا يزال من غير الواضح ما إذا كانت هذه الممارسات موحدة في جميع الفروع الأمنية.

في بدايات الحرب، احتفظت الأجهزة بسجلات دقيقة لأنشطتها وللسوريين الذين اختفوا في عهدتها. كان كل استجواب يُدوَّن، وكل وفاة تُسجَّل، وكل جثة تُصوَّر.

لكن هذا التوثيق الدقيق ارتدّ عليهم لاحقًا. فمع تسرب الوثائق، هددت الولايات المتحدة بفرض عقوبات قاسية من شأنها تهديد تدفق الأموال غير المشروعة إلى قادة النظام. وبدأت محاكم أوروبية توجيه اتهامات للأسد وحلفائه.

ولا تزال آثار جهود التستر تلك حاضرة حتى اليوم، وقد زادت من معاناة السوريين الذين يبحثون عن إجابات بشأن مصير أحبائهم المعتقلين جرحًا مفتوحًا في بلد يحاول التعافي من وحشية ديكتاتورية استمرت عقودًا.

وقال أبو الهادي العلي، 47 عامًا، الذي اختفى شقيقه منعم العبد الله عام 2013: «كيف يمكنني أن أجد السلام؟»

لسنوات، دفع العلي وأقاربه آلاف الدولارات لوسطاء على صلة بالنظام، وعدوهم بالحصول على معلومات عن شقيقه.

وكل ما تمكنت العائلة من جمعه هو أنه اعتُقل عند حاجز حكومي قرب الحدود السورية- اللبنانية، واتُّهم بالانتماء إلى المعارضة، ثم نُقل في نهاية المطاف إلى جهاز أمني في دمشق.

وقال: «لا يزال هذا الألم ينهشني من الداخل. إلى أين أُخذ؟ كيف قُتل؟ هذه الأسئلة تطاردني».
الاختفاءات

بعد أن تحولت الانتفاضة الشعبية عام 2011 إلى حرب أهلية، تغيّر دور الشرطة السرية، التي لطالما كانت حضورًا مرعبًا في سوريا الأسد. أُسقطت القيود القانونية، وشرعت الأجهزة الأمنية في سحق التمرد وكسر إرادة السوريين.

اكتظت السجون بالمعتقلين. وقال ثمانية محققين سابقين للصحيفة إن المحققين كانوا يصعقون المعتقلين بالكهرباء في أعضائهم التناسلية، ويلقون الجثث وعبوات غاز مفتوحة في الزنازين، ويحرمونهم من النوم.

وفي بداية الحرب، نصح حلفاء روس وتونسيون الأسد بالحفاظ على هذه السجلات، معتبرين أن اعترافات السجناء وغيرها من المعلومات قد توفر غطاءً قانونيًا للنظام، بحسب إسماعيل كيوان، المسؤول السابق في الجهاز الطبي العسكري.

لكن السجلات تحولت لاحقًا إلى عبء. ففي يناير 2014، هُرّبت صور لأكثر من 6,000 جثة من السجون السرية- بعضها يحمل آثار تعذيب- إلى خارج البلاد على يد مصور عسكري سوري يحمل الاسم الرمزي «قيصر».

كانت تلك الصور أول دليل مفصل على التعذيب والإعدامات التي ارتكبها نظام الأسد منذ اندلاع الحرب. وبعد أشهر، قدمت فرنسا الصور إلى مجلس الأمن الدولي، ما عزز مصداقيتها ورفع احتمال توجيه اتهامات بجرائم حرب للنظام.

قررت الأجهزة الأمنية شنّ هجوم مضاد.

أوصى المسؤولون بتجنب الخوض في التفاصيل أو محاولة إثبات أو نفي الوقائع، والتركيز بدلًا من ذلك على «تقويض مصداقية» المسرّب قيصر

في أغسطس 2014، عقد كبار المسؤولين العسكريين والسياسيين والاستخباراتيين اجتماعًا مع فقهاء قانون سوريين لمناقشة إستراتيجيتهم، بحسب مذكرة اطّلعت عليها الصحيفة، وجرى التحقق من مضمونها مع مسؤولين سابقين.

وخلال يومين، خطط المسؤولون لتشويه مصداقية الصور. وبما أن الصور لم تكن مرتبطة بأسماء، رأوا أنه يمكن الادعاء بأن عددًا محدودًا فقط يعود لسجناء سياسيين، وأن كثيرين قُتلوا في معارك أو كانوا مجرمين عاديين.

كما أوصوا بتجنب الخوض في التفاصيل أو محاولة إثبات أو نفي الوقائع، والتركيز بدلًا من ذلك على «تقويض مصداقية» المسرّب قيصر، الذي كانوا قد توصلوا إلى اسمه الحقيقي، فريد المذهان.
آثار الورق

بحلول عام 2018، كانت كفة الحرب قد مالت لصالح النظام بعد استعادته مدنًا كبرى. ومع ترسيخ صورة الأسد كمنتصر، ضغط الحلفاء الروس لإعادة تطبيع علاقات سوريا الدولية بعد سنوات من العزلة.

لكن بعض المسؤولين خشوا من أن عودة العلاقات الدبلوماسية قد تفتح الباب أمام محققين دوليين لاكتشاف أدلة على الفظائع.

وفي الوقت نفسه، كشفت تقارير جديدة لمنظمات حقوق الإنسان تفاصيل أشد وحشية عن العنف، ما زاد الضغط من عائلات المعتقلين المطالبين بمعرفة مصير ذويهم.

وبعد اجتماع مديري الأجهزة الأمنية في القصر عام 2018، وضع علي مملوك إستراتيجية لمحو أدلة الجرائم السابقة وإخفاء الانتهاكات المستقبلية بشكل أفضل.

بدأت بعض الأجهزة سريعًا تغيير طريقة توثيق وفيات السجناء. ففي السابق، كانت جثث المعتقلين السياسيين تُنقل إلى مستشفيات عسكرية في دمشق وعليها رقمان مكتوبان: أحدهما يحدد الفرع الأمني، والآخر رقم المعتقل.

لكن في عام 2019، بدأت فروع أمنية، بينها الفرع 248 وفرع فلسطين، بحذف بعض أو كل تلك المعلومات.

وسعى قادة النظام أيضًا إلى إيجاد مبررات قانونية لوفيات المعتقلين. ففي مذكرات «سري للغاية» عام 2020، اقترحت المخابرات الجوية تسجيل الوفيات في السجل المدني، بزعم إخطار العائلات وتخفيف الضغط الشعبي.

غير أن مسؤولين آخرين حذروا من أن ذلك قد يثير غضب العائلات ويؤدي إلى احتجاجات.

وقال اللواء محمد كنجة الحسن، رئيس القضاء العسكري: «لا نرى حاجة لمشاركة تفاصيل الجثث مع العائلات. قد يكون ذلك غير آمن».

كما أعرب مسؤولون في وزارة الدفاع عن مخاوفهم، في ظل الضغوط الناجمة عن «قانون قيصر»، من أن تُستغل أي قوائم لوفيات المعتقلين للضغط على النظام.

وفي يونيو 2020، شكّل مملوك لجنة داخل مكتب الأمن الوطني لدراسة الخيارات.

وبعد ذلك، أمر الأجهزة الأمنية بتلفيق اعترافات لكل من توفي في الحجز وإرجاع تاريخها إلى الوراء. وشملت بعض الاعترافات إقرارات بالانتماء إلى جماعات إرهابية دولية.

وكانت المشكلة في البصمات، إذ يقتضي القانون توقيع الاعتراف ببصمة المعتقل. فابتكر بعضهم حيلة: استخدموا حبرًا خفيفًا جدًا لبصماتهم، ثم صوّروا الوثائق وأتلفوا النسخ الأصلية.
المقبرة الجماعية

من أكثر الأدلة إدانة للنظام المقابر الجماعية التي دُفنت فيها جثث المعتقلين.

وكانت عمليات المقابر في دمشق يشرف عليها العقيد مازن إسمندر، الذي نظم فرقًا لنقل الجثث من المستشفيات العسكرية ودفنها في مواقع حول العاصمة.

وفي أوائل 2019، علم أن ناشطين وصحافيين اطّلعوا على موقع مقبرة جماعية في القطيفة شمال دمشق. فأُمر بنقل جميع الجثث إلى موقع جديد.

ونُفذت العملية على مدى عامين، إذ نُبشت الجثث ونُقلت بشاحنات إلى صحراء الضمير شمال شرق دمشق.

وقال أحمد غزال، ميكانيكي في مدينة الضمير:
«كان هناك مدنيون، وأشخاص بملابس عسكرية، وشيوخ بلحى بيضاء، وأشخاص عراة».

وفي إحدى الليالي، شاهد غزال جرافة تغرز أسنانها في جثة وتلقيها في حفرة، فيما كان العقيد إسمندر يراقب.

وقال له: «هل رأيت شيئًا؟»
أجاب: «لا».
فقال: «لو قلت إنك رأيت شيئًا، لانضممتَ إلى الجثث في الحفرة».
السقوط

عندما أُقر «قانون قيصر» عام 2019، اعتبره كثيرون خطوة نحو العدالة. لكن العقوبات لم تردع النظام.

بل قال محققون إنهم أصبحوا أكثر قسوة، مدفوعين بالغضب من تدهور رواتبهم.

وبحلول 2023، بدأت الجرائم تلحق بالنظام. أصدرت فرنسا مذكرات توقيف بحق كبار مسؤوليه، ثم بحق بشار الأسد نفسه وشقيقه ماهر.

وفي ديسمبر 2024، انهار النظام فجأة. دخل تحالف “المتمردين” بقيادة أحمد الشرع دمشق، وفرّ الأسد وكبار معاونيه إلى روسيا.

أما العقيد إسمندر، فقد فرّ هو الآخر، حاملاً صندوقًا خشبيًا يحوي بطاقات هوية لمعتقلين قُتلوا أو أُعدموا، ووزع بعضها على موظفين لمساعدتهم على الهرب.

ولا يزال إسمندر طليقًا.
العناوين الاكثر قراءة









 

العودة إلى الصحافة اليوم

cron