لم يعد تصاعد عدد سكان العراق مجرد امتداد طبيعي لدورات النمو، بل تحول إلى تغيير ديموغرافي واسع يعيد رسم الخريطة الاجتماعية والاقتصادية للبلاد.
فمع دخول العراق قائمة أكثر الدول نمواً سكانياً في عام 2025 واحتلاله المرتبة العشرين عالمياً بزيادة قاربت مليون نسمة خلال سنة واحدة، كشف التعداد الرسمي عن وصول عدد السكان إلى 46.1 مليون نسمة، معظمهم من شريحة عمرية شابة تمثل نحو ثلث المجتمع.
غير أن هذه الأرقام، التي تبدو في ظاهرها «هبة بشرية»، تحوّلت على أرض الواقع إلى ضغط متراكم، خصوصاً بعد تزايد الهجرة من الريف إلى المدن بوتيرة هي الأسرع منذ عقدين. وتشير بيانات وزارة التخطيط إلى أن ما يقرب من 70% من سكان العراق يعيشون حالياً في المناطق الحضرية، بعدما كانت هذه النسبة أقل بكثير قبل سنوات. هذا التحرك الجماعي نحو المدن لم يأت نتيجة البحث عن فرص عمل أو خدمات أفضل فحسب، بل بسبب تهالك البنى الريفية، وتراجع الزراعة، وشح المياه، وتقلص القدرة المعيشية في الأطراف. وبهذا تحولت المحافظات الكبرى، وخصوصاً بغداد والبصرة والنجف وكربلاء، إلى نقاط جذب سكاني تستقبل أعداداً تفوق قدرتها العمرانية على التوسع.
وقال الخبير في الشؤون الاقتصادية ناصر التميمي في تصريح صحفي إن هذا التحول يشكل «تحدياً استراتيجياً لا يمكن تجاهله»، مبيناً أن «الارتفاع المستمر في معدلات الخصوبة وتراجع الهجرة السالبة وغياب التخطيط العائلي جعل العراق يدخل مرحلة ضغط ديموغرافي أخطر من أي وقت مضى». ويرى التميمي أن التحول الديموغرافي «أعاد تشكيل المدن» بطريقة غير متوازنة، إذ تتوسع الضواحي العشوائية، وتتقلص المساحات الخضراء، وتتراجع قدرة البلديات على مواكبة الزيادة في الطلب على المياه والكهرباء والتعليم والصحة.
وتبرز آثار هذا النمو السكاني في تفاصيل الحياة اليومية. فبغداد التي كانت تستوعب خمسة ملايين قبل عقود، تجاوز عدد سكانها الفعلي الآن عتبة الثمانية ملايين من دون توسع مماثل في الطرق أو المدارس أو المستشفيات. وفي البصرة يبدو المشهد أوضح؛ إذ إن موجات النزوح من الأهوار والشلل الزراعي حولت المدينة إلى مركز حضري مكتظ يرتفع فيه الطلب على العمل والخدمات أسرع بكثير من قدرة المؤسسات على الاستجابة. أما في المحافظات الوسطى، فقد أسهمت الهجرة إلى المدن في إضعاف الإنتاج الزراعي ودفع آلاف الأسر إلى الاعتماد على الاقتصاد غير المنظم.
ويحذّر التميمي من أن استمرار هذا المسار سيجعل «المدن العراقية تواجه حالة اختناق حضري» خلال السنوات المقبلة، خصوصاً مع دخول ما يقرب من 400 ألف شاب سنوياً إلى سوق العمل، في حين لا يستوعب الاقتصاد الرسمي سوى جزء محدود منهم. ويضيف أن «الهبة الديموغرافية يمكن أن تكون فرصة، لكنها تتحول إلى عبء حين يُترك الشباب بلا تعليم مهني ولا فرص إنتاج ولا تخطيط أسري».
ورغم الصورة القاتمة، يرى الخبراء أن معالجة هذا التحول الديموغرافي ممكنة عبر سياسات واضحة لا تزال غائبة حتى الآن. وتحتاج الدولة، وفق رؤية التميمي، إلى «خطة وطنية سكانية» ترتبط مباشرة بالاقتصاد وسوق العمل، وتشمل تطوير التعليم المهني، وتحفيز القطاع الخاص، وإعادة إحياء الزراعة، وتوسيع المدن بخطط عمرانية حديثة بدلاً من النمو العشوائي، إضافة إلى نشر ثقافة التخطيط الأسري وزيادة مشاركة المرأة في سوق العمل. ويؤكد التميمي أن «أي تأخير في هذه الخطوات سيجعل موجات الهجرة الداخلية والضغط على الخدمات وتآكل الهياكل الريفية تصل إلى نقطة يصعب الرجوع عنها».
ومع هذا التحول المتسارع، تبدو صورة العراق الديموغرافية أكثر تعقيداً مما تظهره الجداول والخرائط. فالتغيير لا يحدث في عدد السكان فقط، بل في طبيعة المجتمع وشكل المدن والإيقاع اليومي للحياة.