الوثيقة | مشاهدة الموضوع - هدوء غير مألوف.. كيف دفع السوداني الفصائل المسلحة إلى ترك ساحة المواجهة؟
تغيير حجم الخط     

هدوء غير مألوف.. كيف دفع السوداني الفصائل المسلحة إلى ترك ساحة المواجهة؟

مشاركة » الأحد سبتمبر 14, 2025 6:08 pm

قبل سنوات قليلة فقط، كانت أصوات الانفجارات التي تستهدف القواعد الأمريكية في العراق حدثًا شبه يومي، تخلّف وراءها خسائر وبيانات تهديد، وتضع البلاد على حافة مواجهة إقليمية مفتوحة.

تلك الهجمات لم تكن مجرد عمليات عسكرية، بل كانت أدوات ضغط تُستخدم في لعبة النفوذ بين واشنطن وطهران، وتُلقي بظلالها على كل جولة مفاوضات بينهما، حتى داخل غرف المحادثات النووية.

لكن اليوم، يبدو أن المشهد تغيّر جذريًا. فقد تراجعت وتيرة الهجمات بشكل غير مسبوق، وخفّ صوت التهديدات، فيما تحوّلت الفصائل التي طالما كانت رأس حربة التصعيد إلى طرف يحسب خطواته بعناية، تحت ضغط الحسابات السياسية والمصالح الاقتصادية، وبدعم ضمني من حكومة محمد شياع السوداني.

قراءة بلغة الأرقام

يكشف رصد خاص أنّ العام الأول من ولاية السوداني (تشرين الأول/أكتوبر 2022- تشرين الأول/أكتوبر 2023) خلا تمامًا من أي هجمات على القواعد الأمريكية، رغم أن الأشهر السابقة مباشرة شهدت استهدافات متكررة أثناء أزمة الانسداد السياسي التي سبقت تشكيل حكومته، وانتهت بانسحاب التيار الصدري (التيار الوطني الشيعي حالياً) من البرلمان بعد مواجهات دامية في المنطقة الخضراء.

وفيما لم يتجاوز عدد الهجمات في عهد السوداني الممتد لأربع سنوات خمسين هجومًا، فقد سجّلت حكومة مصطفى الكاظمي، التي استمرت لعامين فقط، نحو 150 هجومًا، في مؤشر على تبدّل جوهري في قواعد الاشتباك.

بعد عام من الصمت، اندلعت موجة جديدة من الهجمات مع اندلاع الحرب بين إسرائيل وحركة حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، فيما وصفته الفصائل بـ”وحدة الساحات”.

تشرين الأول/أكتوبر 2023

– 17 تشرين الأول: هجومان على عين الأسد.

– بين 20 و31 تشرين الأول: سلسلة هجمات بطائرات مسيّرة على عين الأسد وحرير قرب أربيل، بعضها احبطته الدفاعات الجوية الأمريكية.

– في نهاية الشهر، أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية تعرض قواتها في العراق وسوريا لـ23 هجومًا خلال أقل من أسبوعين.

تشرين الثاني/نوفمبر 2023

– 6 تشرين الثاني: هجوم بطائرات مسيّرة على عين الأسد وحرير.

– 9 تشرين الثاني: ثلاث هجمات متتالية على عين الأسد.

-15 تشرين الثاني: قصف صاروخي جديد على القاعدة.

-21 و23 تشرين الثاني: هجمات صاروخية أعقبها اشتباك مع جهة مجهولة خارج القاعدة.

كانون الأول/ديسمبر 2023 – كانون الثاني/يناير 2024

– 6 و20 كانون الأول: هجمات صاروخية على عين الأسد، لم تُخلّف أضرارًا.

– من 20 حتى 26 كانون الثاني: خمس هجمات متتابعة بصواريخ “غراد” وطائرات مسيّرة.

تموز/يوليو – آب/أغسطس 2024

-16 و25 تموز: هجمات بطائرات مسيّرة مفخخة.

– 5 و6 آب: هجومان جديدان، وسط حصار غزة ومطالبات الفصائل بإخراج القوات الأمريكية.

بعد ذلك، توقفت الهجمات بشكل كامل، حتى في ظل أحداث إقليمية كبرى، منها اغتيال حسن نصر الله في كانون الأول/ديسمبر 2024، وسقوط نظام بشار الأسد وصعود أحمد الشرع في سوريا، وحتى خلال حرب الأيام الاثني عشر بين إيران وإسرائيل مطلع 2025. ولم تُسجَّل سوى ضربة يتيمة في 19 آذار/مارس 2025 على عين الأسد، ثم عاد الصمت.

“مصالح فوق البنادق”

يُرجع الخبير الأمني أحمد الشريفي هذا التحول إلى أن الفصائل، التي كانت طرفًا مؤثرًا في تشكيل حكومة السوداني، فضّلت عدم إحراج الحكومة أو إضعافها بالتصعيد، “خاصة بعدما حصلت على امتيازات وعقود ضخّت مواردها الاقتصادية”.

ويضيف: “المصلحة الاقتصادية والسياسية اقتضت دعم حكومة الإطار وعدم التصعيد… حتى جاءت حرب غزة فانقلبت المعادلة مؤقتًا”.

ويشير الشريفي إلى أن إيران، رغم دخولها لاحقًا في مواجهة مباشرة مع إسرائيل، لم تدفع الفصائل العراقية للاشتراك في الحرب، مفضّلة تهدئة الساحة العراقية.

وعلى الرغم من التوقف شبه التام للهجمات على القواعد الأمريكية، لم يخلُ المشهد من توترات بأشكال أخرى. فقد تعرّضت حقول النفط في إقليم كوردستان، خلال الأشهر الماضية، إلى هجمات متكررة بطائرات مسيّرة وصواريخ، دون أن تتبنّاها أي جهة معلنة.

الفصائل المسلحة نفت مسؤوليتها عنها، لكن سياسيين ومسؤولين محليين في الإقليم اتهموا تلك الفصائل بالوقوف خلفها بهدف إرباك الوضع الداخلي والتأثير على الإنتاج النفطي.

ويشير الخبير الأمني أحمد الشريفي إلى أنّ “هذه الضربات لا تبدو ضمن نهج المقاومة التقليدي بقدر ما ترتبط بصراعات استثمارية حول قطاع الغاز بين إيران وروسيا، إذ إن بعضها استهدف مناطق حليفة للإطار التنسيقي مثل السليمانية، ما يعكس بصمة دولية واضحة”.

العميد المتقاعد عدنان الكناني يتفق مع هذا التحليل، مشيرًا إلى أن “الهدف الآن حماية المصالح لا خوض المواجهات”.

الكناني يشير إلى أن حكومة السوداني منحت استثمارات ضخمة لشركات أمريكية ورجال أعمال مثل نجيب ساويرس لإنشاء مدينة سكنية وإطلاق شبكة الجيل الخامس للاتصالات، معتبرًا أن ساويرس يُنظر إليه في الأوساط العراقية كمقرب من مصالح غربية، وأن “من يسيطر على الاتصالات يسيطر على مركز القيادة”.

لكن في المقابل، يؤكد عامر الفايز، وهو قيادي في الإطار التنسيقي الذي يضمّ عدداً من أبرز الفصائل المسلحة، أن “التوجه الحالي للفصائل المسلحة مع استقرار العراق، ومع عدم زج البلاد في أي معارك جانبية أو أي صراع في المنطقة”.

تبدل قواعد اللعبة

في خضم هذا التحول، جاء الإعلان المفاجئ يوم الثلاثاء عن إطلاق سراح الباحثة الإسرائيلية–الروسية تسوركوف، التي اختُطفت في بغداد في آذار/مارس 2023 على يد كتائب حزب الله، إحدى أبرز الفصائل التي كانت تستهدف المصالح الأمريكية.

جاء الإعلان عبر ثلاث قنوات متزامنة، تدوينة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وبيان من السفارة الأمريكية في العراق، وتصريح رسمي من السوداني.

وقد أثار الإفراج تساؤلات حول ما إذا كانت الصفقة قد تمت ضمن تفاهم غير معلن بين واشنطن وكتائب حزب الله، في مؤشر إضافي على تغيّر عقلية الفصائل من المواجهة إلى التفاهم.

هذا التحول لا يقتصر على الجانب الأمني؛ بل يشير إلى إعادة هندسة للعلاقة بين العراق وقطبي النفوذ- واشنطن وطهران-، فبينما ترى الولايات المتحدة في خفض الهجمات بوابة لإعادة دمج العراق اقتصاديًا، ترى الفصائل في ضبط سلوكها فرصة لترسيخ نفوذها السياسي والمالي من داخل مؤسسات الدولة بدلًا من خوض مواجهات خارجها.
العناوين الاكثر قراءة









 

العودة إلى المقالات