الوثيقة | مشاهدة الموضوع - «أبو حَقِّي».. مجنون شارع الرَّشيد رشيد الخيّون
تغيير حجم الخط     

«أبو حَقِّي».. مجنون شارع الرَّشيد رشيد الخيّون

مشاركة » الأربعاء سبتمبر 10, 2025 12:05 pm

كانت قصة «حقِّك أبو حقّي» معروفة بين البغداديين، وملخصُها أنَّ مجنوناً يقطع شارع الرَّشيد (ثلاثة كيلومترات) ذهاباً وإياباً، بين باب المعظم شمالاً والباب الشّرقيّ جنوباً، صباحَ مساءَ، منادياً: «حقّي حقّي»، لذا عُرف بـ«أبي حقِّي»، والسَّامع يردُّ: «حقُّك أبو حقِّي». كان يشتم الزَّعامات، بدءاً بنوري باشا (قُتل 1958)، دون ذكر اسم الملك فيصل (قُتل 1958).

وبعد كلِّ انقلاب يحفظ الاسمَ الأول ويبدأ بشتمه، وقد تناول عبد الكريم قاسم (قُتل 1963)، ثم عبد السّلام عارف (قُتل 1966)، فعبد الرَّحمن عارف (ت 2007)، ولم يُمنع أبو حقّي مِن هوايته، بل إنّ مسؤولين تداولوا خبرَه نكتةً. بعد أسبوع مِن استلام «البعث» السُّلطةَ (17/7/1968)، غاب أبو حقّي غيابَه الأخير، فشعر أهل «الرَّشيد» بأهميته، وقد فرغ شريان بغداد منه، وكان يتخذ مِن رصيفه مأوىً، ألِفه لعقدين مِن الزَّمن، ينام ويأكل ويشرب مما يُجادُ به عليه. غاب ولا يُعلم هل زُج به في مستشفى المجانين، المعروف في بغداد باسم «الشّماعيَّة»، أم قُتل ورُمي في مكان ما؟ ويومها بدأت الأجواء تدلهم، والسُّؤال عن أبي حقِّي فيه مخاطرة، فالجدُ قد جدَّ، لا يُفرق بين مجنون وعاقل. بعد إعلان اسم الرَّئيس الجديد (1968)، وما أنْ حفظه أبو حقّي ونطق بشتمه، كي يمارس هوايته، حتى اختفى، ولم يعد لخياله وجود، إلا في ذاكرة تُجار «الرّشيد»، الذين سمعنا مِن بعضهم سيرتَه. لم يُطالب أبو حقِّي بشيءِ، ولم يعرف له فعل سياسيّ، وما كان يحتجّ لمظلوميّة وقعت عليه، بل كان فقط يشتم الرُّؤساءَ، مع لازمته «حقّي حقّي».

دونت قصص مجانين كثيرين، ففي كلّ زمانٍ ومكانٍ يكون للمجانين حضورهم في مدنهم وقراهم، لكن لم نصادف مَن تذكَّر «أبا حقِّي»، أما ما عُرض مِن كوميديا بعنوان «أبو حقّي» في بعض الفضائيات، فليس مقصودنا. لا أعرف إذا كان «أبو حقّي» شكلَ خطراً قوميَّاً، فما جرى في 14 يوليو 1958 ليس بسبب شتيمة أبي حقّي للباشا، كذلك ما حصل في 8 فبراير 1963، لم يكن له دورٌ ولا فعلٌ فيه. وعلى الرّغم مِن قسوة شتائمه، لم يلتفت المسؤولون لظاهرة أبي حقّي، وكذا الحال مع عهد الأخوين العارفيّ، لم يهتما بشتائمه، حتَّى جاء العهد الذي لا يمزح، مع العقلاء والمجانين على حدٍّ سواء، وهذا بحدِّ ذاته كان برهاناً على أنّ أبا حقّي مشخصٌ مجنوناً، فلو كان عاقلاً لهجر «الرّشيد»، حال سماعه البيان الأول.

تغييب أبي حقِّي لا علاقة له بفرض هيبة السُّلطة، مثلما فكر به البعثيون في عهدهم الثَّاني، ففي عالم السّياسة، وما أدركه الباشا، وكان يمرّ ويسمع شتائم أبي حقّي، تكون الحاجة لهذه الظّاهرة، منها للرفاهية والتَّخفيف عن كواهل المارة، وفيها أيضاً دعاية بوجود حريات، وخصوصاً ببلدٍ مثل العِراق، ما إنْ يقوم انقلاب، إلا وخُطط لانقلاب «أنكس» منه. لو عاش أبو حقّي في زمن عمرو بن بحر الجاحظ (ت 255 هـ)، أو في زمن أبي الفرج عبد الرّحمن بن الجوزي (ت 597 ه) لضمَّنا حكايتَه صفحات ما كتبا عن الجنون والتَّماجن. أقول: لو كُتب لأبي حقِّي الحياة إلى يومنا هذا، ما استطاع حفظ اسم مسؤول واحد، حتَّى لو كان يشاركه التسكع على حافات «الرَّشيد» حينها، وكم يحفظ؟ وأي خرابٍ يشتم؟ والكلُّ صاروا مشتومين، إلا الخطوط الحُمر مِن المقدسين، فشاتمهم عليه حساب الخطف، والاغتيال، والقنص.

كان الشّيخ عليّ الشّرقيّ (ت 1964) يعني ما قاله: «أيَّها البلبلُ في السِّجنِ/ سلامٌ كم يوسفٍ في السُّجونِ/ إنني قد غدوتُ أنعمُ في الشَّكِ/ لأنّي منغصٌ باليقينِ/ لم أجد في العراقِ ليلى ولكْن/ كل آنٍ أمرُّ في مجنونِ» (الدِّيوان، دار الرّشيد 1986). يا أبا حقِّي، غبت، وظهر مَن يُهدد بتغييب الشّارع كاملاً، لأنَّ اسمه «الرّشيد»، فاطمئن، فقد كنتَ عاقلاً، قياساً بما أتى بعدك مِن مجانين.
العناوين الاكثر قراءة









 

العودة إلى المقالات