بانطلاق هذا الهجوم الكبير على إيران، تمكّن رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو من تنفيذ هدف إسرائيلي استراتيجي طالما استخدم في سبيله حملاته الدعائية حول «الخطر الإيراني» على العالم، وجولاته على وسائل الإعلام، ولقاءاته مع زعماء الدول، وخطاباته في الكونغرس الأمريكي، إلخ.
احتاج نتنياهو لتحقيق هذا الهدف، بداية، موافقة الولايات المتحدة الأمريكية، التي كان رئيسها دونالد ترامب، الواعد بـ»إنهاء الحروب» يطمح إلى التوصّل إلى اتفاق عبر القنوات الدبلوماسية مع طهران يُنهي ما تعتبره إسرائيل والدول الغربية خطر برنامجها النووي، وفي الوقت نفسه يعزز القدرات العسكرية الإسرائيلية بتزويدها بأكثر العتاد تدميرا، وهو ما نشاهده يوميا في الحرب على قطاع غزة.
كان الاتفاق الذي يسعى له ترامب، بهذا المعنى، السبيل الوحيد لتجنيب الجمهورية الإسلامية هذه الضربة الكبرى. واضح أن النخبة الحاكمة في النظام الإيراني رأت أن ما يعرضه ترامب لا يلبي أيا من طموحاتها وأنها تستطيع المناورة لتحقيق السقف الأعلى من المفاوضات عبر الحفاظ على البرنامج النووي والتخصيب داخل البلاد.
عرض ترامب إبقاء البرنامج النووي الإيراني مع نقل تخصيب اليورانيوم إلى روسيا، لكن إيران رفضت ذلك، والأكثر احتمالًا أن هذا الرفض شكّل فرصة نتنياهو السانحة لإقناع ترامب بفرض شروطه على إيران عبر صدمة عسكرية كبرى تتمثّل في اغتيال كبار القادة العسكريين والعلماء النوويين وقصف المنشآت النووية.
استعد الجيش الإسرائيلي منذ فترة طويلة لهذه العملية الهائلة عبر تحضير عمليات أمنية ولوجستية معقدة. وضعت هذه الخطوة نتنياهو، نظريًا، في المكان الذي يرتئيه: زعيم إسرائيل التي تقود «العالم الغربي» لإخضاع إيران. وكان واضحًا أن أمريكا والدول الأوروبية قبلت هذا الدور، فحرّكت القوات الأمريكية مواردها، وساهمت في إسقاط المسيّرات المتجهة نحو إسرائيل، وقامت بريطانيا أيضًا بتحريك قوات لها نحو المنطقة قائلة إنها «قد تدعم إسرائيل».
بمجرد وقوعه، يرفع الهجوم الإسرائيلي سقف الشروط الغربية ضد طهران، بحيث تتجاوز إنهاء البرنامج النووي الإيراني إلى إنهاء برامج الصواريخ الباليستية، والقضاء على الأذرع العسكرية لإيران في المنطقة. لكن قبول إيران بهذه الشروط، لو حصل، قد يقود إلى تقويض ركيزتها الكبرى التي يقوم عليها حكمها، وهي التفوق العسكري، والنفوذ الإقليمي، والقدرة على منع استباحة البلاد.
من النافل القول إن جزءا من نجاح الضربة الإسرائيلية ناجم عن سوء تقدير استراتيجي كبير لدى القيادة الإيرانية للأوضاع في المنطقة والعالم. ولا يقتصر سوء التقدير هذا على فهم طبيعة العلاقة بين إسرائيل وبقية العالم الغربي، أو على السقف الذي يمكن الوصول إليه عبر المفاوضات، بل يمتد أيضًا إلى استيعاب التغيّر الكبير الذي سببه حدث 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 في غزة، وما تبعه في سوريا ولبنان، وفهم طبيعة نتنياهو كرجل لا يؤمن بالسلام أبدًا، ويرى في الحرب فرصة لتكريس الغطرسة الإسرائيلية، واستغلال الأزمات لتعزيز قبضته داخليا، وتوسيع نفوذ إسرائيل إقليميا، ما سلف كان يفرض مراجعة جذرية لأسلوب إيران، وعلاقاتها مع الدول العربية والعالم.
عبر عمليتها الجديدة التي أطلقتها قبل أيام، نجحت إسرائيل في خلق دينامية قادرة على جرّ الولايات المتحدة والدول الغربية إلى حرب شاملة ضد إيران. ووقف هذه الدينامية مرتبط، إلى حدّ بعيد، بالقرارات التي ستتخذها القيادة الإيرانية. وفي هذا السياق، من الضروري أن تتحرك دول المنطقة بسرعة وحزم، لأن نجاح إسرائيل (لا سمح الله) في توجيه ضربة قاصمة لإيران سيمنحها القدرة على فرض سيادتها على المنطقة كاملة، وهو ما سيغيّر موازين القوى ويهدد مستقبل هذه الدول ومصالحها الاستراتيجية بشكل مباشر.