في بلدٍ كان يُعرف في غابر الأزمان بأنه منارة للعلم والفكر والأدب والنهضة العمرانية والحضارية ، ومعها تحوّلت الشهادة الجامعية من رمزٍ للجد والاجتهاد والمثابرة إلى مجرد ورقةٍ مشكوكٍ في صدقها وصحت صدورها فاصبحت بدورها بعد عام 2003 الهاجس الأكبر للمسؤولين لتُشترى وتُعلّق على الجدران للتباهي وتفتح معها أبواب المناصب الحكومية ، بينما تُغلق في الوقت ذاته وتوصد أبواب النهضة الحقيقية بوجه من تعب واجتهد وثابر وسهر الليالي لنيل شهادته الجامعية. فلذا اليوم اصبحنا نرى بكل وضوح , تفشي ظاهرة “الشهادات الجامعية” المزورة في العراق فهذا الامر لم يعد مجرد خلل إداري أو فساد عابر، بل أصبح جريمةً منظمة بحق صدقية ورزانة وابتكار العقل العراقي ومستقبله في كافة ميادين الحياة . فلقد أُقصي العقل الكفوء لصالح عقلٍ مزيف ، وتقدّم الجهل بثياب أكاديمية أنيقة ليتصدر المشهد في الجامعات والكليات والوزارات والمؤسسات الثقافية والإعلامية، وحتى مراكز صناع القرار , فكيف لنهضة علمية أن تزدهر وتخطو نحو افاق المستقبل ، وهناك ما يزال أساتذة الأمس الحقيقيون يُهمَّشون وتتم محاربتهم واقصائهم من عملهم ، بينما حاليآ يتصدر المشهد السياسي والاقتصادي والقضائي والاجتماعي وحتى الإعلامي من لم يقرأ كتابًا بعمق ، ولم يكتب بحثًا بصدق، ولم يخضع يومًا لميزان النقد العلمي والتقني؟ لذا فإن أخطر ما في الشهادة ” الجامعية المزورة ” ليس الورقة بحد ذاتها، بل العقل الذي تحمله ويتباه به بل إنه عقلٌ عاجز عن الإبداع والفكر ، خائف من النقد والتساؤلات ، معادٍ للعلم وللمعرفة الحقيقية , وهكذا تتحول الجامعات والكليات والمعاهد إلى مجرد قاعات فارغة من محتواها وتلقين خاوية على عروشها، والمراكز الثقافية إلى منصات مجاملة ، والإعلام إلى أبواق تُلمّع الفراغ وتسوّق الرداءة بوصفها إنجازًا يحتفى به ؟.
لم تكن الفضيحة التي تناقلتها وسائل الإعلام العربية والعالمية خلال الأيام الماضية في ” الهند ” حدثًا عابرًا في سجلات الجريمة المنظمة، بل صفعةً مدوية كشفت واحدة من أخطر شبكات تزوير الشهادات الجامعية في العالم، وأعادت من جديد فتح ملفٍ ما يزال مسكوتٍ عنه في العراق على الرغم من القوانين الخجولة التي تصدرها المؤسسات والجهات الرقابية الحكومية , وهي محاولة يائسة لغرض إعطاء صورة مغايرة للحقيقة وكيف تفشى ظاهرة ووباء الشهادات الجامعية المزورة . ففي ولاية “كيرالا”، وتحديدًا في مدينة “مالابورام”، داهمت الشرطة الهندية مكتب توظيف عابر للحدود بعد معلومات سرية مسربة حصلت عليها أجهزة الشرطة والامن الهندية ، لتكتشف ما يشبه بـ “مصنعًا أكاديميًا” متكاملًا لتزوير الشهادات الجامعية بمختلف التخصصات العلمية والهندسية والطبية والإنسانية . أختام رسمية، ومستندات وأوراق جاهزة، كشوف درجات علمية مصدقة مسبقا من الجامعات والكليات ، بالاضافة الى شهادات حسن سيرة وسلوك، وحتى رسائل توصية رسمية ولكنها جميعها مزورة ، إلى جانب العثور على أختام مزيفة تحمل شعارات نحو 28 جامعة وكلية هندية. وتشير تقديرات أولية إلى أنّ عدد الشهادات التي جرى تزويرها قد يتجاوز حاجز 1,000,000 شهادة، فيما ألقي القبض على 11 شخصًا من ولايات مختلفة بعد إنشاء مطابع متعدّدة في ولايات مثل تاميل نادو، بنغالورو، أندرا براديش، ماهاراشترا، غوا، دلهي، البنغال الغربية، إضافة إلى كيرلا، لتوزيع نشاط الشبكة على معظم أنحاء البلاد وكل ذلك مُعدّ بعناية فائقة ومدروسة لإنتاج وتصدير شهادة جامعية مزورة في اختصاصات حساسة كالهندسة، والتمريض، والطب وإدارة الأعمال، والتقنية، وعلوم الكمبيوتر , تُباع بأسعار تتراوح بين 75 ألف و150 ألف روبية، وحسب الاختصاص والدرجة العلمية ” بكالوريوس وماجستير ودكتوراه ” وتُرسل إلى خارج الولاية – بل خارج الهند – عبر البريد، وكأنها بضاعة مشروعة تنتج وتصدر وفق قوانين وضوابط تجارية ؟ هذه الفضيحة المدوية والتي سبقتها قبل سنوات فضيحة الشهادات الجامعية المزورة في لبنان وإيران فما كادت ان تهدأ الفضيحة الاولى حتى اتت هذه الفضيحة الاخرى لتشعل معها الجدل في العراق من حيث رصانة و اكاديمية وعلمية الشهادات الجامعية , غير أن الصدمة الحقيقية لم تكن في حجم التزوير وحده، بل في الوجهة النهائية التي ترسل لها وحسب ما سرب لنا من احد السادة المسؤولين الافاضل والقريب من الحدث , فان حالة من التكتم تدور في أروقة ” لجنة التعليم العالي والبحث العلمي النيابية ” وبان هناك جهود محمومة تقوم بها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي , فقد تبين بأن هناك المئات بل الالاف، من الطلاب العراقيين خلال العشرين سنة الماضية يُشتبه بحصولهم على شهادات جامعية مزورة من هذه الشبكات الهندية المختصة بالتزوير ، تشمل “البكالوريوس والماجستير والدكتوراه”، وفي مختلف الاختصاصات. الأخطر من ذلك أن الحديث لا يدور عن أفراد عاديين فقط، بل عن مسؤولين حكوميين، وقيادات حزبية، وموظفين بدرجة مدير عام، وقضاة وحتى أعضاء في مجلس النواب وضباط برتب عالية . وهو ما يثير الريبة والشك ومن خلال قانون تم إصداره ووجهت إليه العديد من الانتقادات من قبل أصحاب الشأن والاختصاص حول أسس تعادل الشهادات والذي يحتوي على العديد من السلبيات، وقد ألغت المحكمة الدستورية عدة فقرات منه مرغمة لان مصادقة الشهادات الجامعية المزورة أصبحت تجري بصورة رسمية ومن دون اي اعتراض من اي جهة رقابية , ومثل هذه الأخبار المتناقلة تمس معها الحالة العراقية بدرجة خاصة مع كثرة الطلاب الدارسين في الهند بمختلف التخصصات العلمية والطبية والهندسية بمختلف المعاهد والكليات والجامعات الهندية وبدون ان تكون اي متابعة اكاديمية حقيقية من قبل وزارة التعليم العالي العراقية , لان عدد الطلاب الدارسين في الهند يفوق خلال السنوات العشرون الماضية ما يقارب الرقم من خمسين ألف طالب وطالبة وبمختلف التخصصات حصلوا على شهاداتهم الجامعية، اليوم وزارة التعليم العالي والبحث العلمي مقصرة كليآ على عدم وغياب وجود قاعدة بيانات رسمية شاملة ومتكاملة للطلبة العراقيين الدارسين ليس في الهند فقط ولكن بغيرها من الدول لبنان وايران وتركيا وبعض الدول الاوربية ، والجامعات والكليات والمعاهد التي ينتسبون إليها، مما يفاقم بالتالي من تعقيد عملية تتبّع الحالات المشكوك فيها والتحقق من المسار الأكاديمي الحقيقي لكل طالب وطالبة ، ولا سيّما في ظل تنامي نشاط مكاتب وسماسرة الدراسة في الخارج التي تعمل أحيانًا ضمن مساحات رمادية تفصل بين الاستشارات القانونية والممارسات غير المنظّمة لتسويق المقاعد الجامعية. وكما أن الفضائح المتكررة المرتبطة بملف الشهادات الجامعية المزورة التي تخرج للسطح بين الحين والآخر وعليه في الجهات التعليمية والتربوية والرقابية الحكومية العراقية عليها ان تحاول قدر الامكان ان تغلق هذا الباب بوجه من تسول له نفسه بالحصول على شهادة جامعية مزورة وينبغي أن تشكّل فرصة جادّة لإعادة تقييم منظومة الاعتراف والمعادلة في العراق ، ليس من خلال الاكتفاء فقط والتصديق المباشر من دون مراجعة علمية وتقنية وشفافة ونزيهة لكافة قوائم الجامعات المعترف بها فحسب، بل عبر إنشاء قنوات تواصل مباشرة مع الجامعات الأجنبية وبصورة منفصلة ودون تدخل أصحاب الشأن لتبين حقيقة الشهادة الجامعية ، واعتماد أنظمة تحقق إلكترونية معترف بها دوليًا، بما يحدّ من قدرة شبكات التزوير، سواء داخل تلك الدول أو خارجها، على تمرير شهادات جامعية لا تقوم على دراسة أكاديمية فعلية، خصوصًا في التخصصات ذات الصلة المباشرة بسلامة المواطنين وأمن البنى التحتية. واذا بقى الحال كما هو عليه من غير التصدي الجاد فانه مؤشر خطير على حجم الورطة. فحين تكون مئات والالاف الشهادات الجامعية بموضع شك وريبة ، ويكون أصحابها في مواقع القرار السيادي الحكومي ، يصبح معها كشف الحقيقة تهديدًا مباشرًا لمنظومة حكومية كاملة بُنيت على الزيف والخداع والتزوير. ولهذا، يبدو للبعض من اصحاب القرار والشأن بأن : الصمت أسهل من المواجهة، والتجاهل أقل كلفة من المحاسبة. والمأساة لا تكمن فقط في أن بعض المسؤولين يُشتبه بأنهم لا يحملون علمًا حقيقيًا ، بل في أن هؤلاء اصبحوا يتحكمون اليوم بمصير التعليم، والإدارة، والاقتصاد، والطب والهندسة بل وحتى التشريع القوانين التي تحميهم من المساءلة القضائية . فكيف يمكن لمن اشترى شهادته الجامعية من المسؤولين أن يحمي نزاهة وشفافية مؤسسة او وزارة او دائرة حكومية ؟ وكيف لمن هرب من قاعة الامتحان أن يقود إصلاحًا أو يبني دولة ؟ لان الشهادة الجامعية المزورة ليست جريمة فردية، بل خيانة جماعية. خيانة للطالب المجتهد الجاد في دراسته، وللأستاذ النزيه والكفوء، وللجامعة هذا الصرح التعليمي، وللمجتمع بأسره. وهي السبب الخفي – وربما العلني – في تراجع النهضة العلمية والفكرية والاقتصادية في العراق، وضمور الفكر النقدي وانحدار مستوى التعليم .لذا فإن المجتمع الذي يُكافئ التزوير لا يمكن أن ينتج علمًا نافعا للمجتمع ، ولا أن يحمي ثقافة ، ولا أن يبني دولة المؤسسات , لان التزوير ببساطة لا يصنع معرفة علمية وتقنية وثقافية واقتصادية ، بل يصنع طبقةً انتهازية فاسدة ومفسدة للدولة والمجتمع وترى في الشهادة الجامعية مجرد جسر ووسيلة لغرض العبور للسلطة والمنصب لا مسؤولية للارتقاء والتطور . ومع مرور الوقت، تتحول هذه الطبقة الانتهازية إلى عائق بنيوي أمام أي إصلاح للمجتمع ، لأنها تخشى الحقيقة وتفضحها، وتخاف من المنافسة ، وتعادي كل محاولة لإعادة الاعتبار الكفاءة والنزاهة والدرجة العلمية الحقيقية.
إن معركة العراق اليوم ليست فقط مع الفقر والجوع والمرض أو الفساد المالي والاداري ، بل مع فساد العقل وتزييف القيمة . ولن تبدأ النهضة العلمية والاقتصادية والمجتمعية والأدبية والفكرية إلا حين تُسحب الأقنعة الأكاديمية المزيفة والمزورة ، ويُعاد الاعتبار للعلم بوصفه جهدًا وأمانة ونزاهة وشرف ، لا سلعة محمية تباع وتشترى في سوق التزوير . فالأوطان لا تُبنى بالأختام المزورة ، بل بالعقول المهنية الصادقة ، ولا تنهض بالشهادات الجامعية المزوّرة، بل بالمعرفة الحقيقية والشجاعة في مواجهة الزيف والخداع الذي تمارسه طبقة انتهازية أُحيطت نفسها بقوانين وتشريعات صورية ، صيغت بطرق شيطانية للتحايل والتهرّب من كشف حقيقتها ومساءلتها ومحاسبتها أمام المجتمع والرأي العام.
sabahalbaghdadi@gmail.com