الوثيقة | مشاهدة الموضوع - الخامس من حزيران.. مقاربة "النكسة" من زاوية أخرى عريب الرنتاوي
تغيير حجم الخط     

الخامس من حزيران.. مقاربة "النكسة" من زاوية أخرى عريب الرنتاوي

مشاركة » الثلاثاء يونيو 06, 2023 10:42 pm

لم يكن أحدٌ في "إسرائيل" ليظن أن حرب حزيران ستكون آخر حروبها الخاطفة، وأنه سيتعين عليها منذ ذلك التاريخ أن تعد العدة لمواجهة نوع جديد من الجنود والمقاتلين، وأنواع جديدة من الحروب المتناسلة.

فضَّل العرب وصفها بـ"النكسة"، ومال الإسرائيليون إلى تسميتها بـ"حرب الساعات الست"... مهما تعددت التسميات وتباينت دلالاتها الرمزية، فالمؤكد أن "إسرائيل" نجحت في قصم ظهور جيوش عربية ثلاثة، وخرجت منتصرة من حرب خاطفة لم تكن تتوقع مثلها حتى في أكثر أحلامها ورديّةً.

قيل ما قيل في تلك الحرب، وتخطت المراجعات والتقييمات مجرياتها الميدانية وسياقاتها السياسية، وسال حبر كثير في وصف حال النظم العربية السائدة آنذاك (التي ما زالت ممتدة حتى يومنا هذا على أي حال)، وبرز من بين مفكرينا وكتابنا وفنانينا من يسعى لإعادة اكتشاف قيمة مفاهيم كالحرية والديمقراطية، مُرجعاً الهزيمة إلى غيابهما عن قاموسنا، ما عُدّ سبباً رئيساً للهزيمة النكراء.

أما في المقلب الآخر، فقد أخذت نشوة النصر الخاطف غير المكلف "إسرائيل" إلى أبعد مدى. صعد قادتها وجنرالاتها أعلى قمم الشجر، ولم يستيقظوا من "نشوتهم" إلا على وقع تكبيرات الجنود المصريين وهم يغرسون علم بلادهم على الضفة الشرقية للقناة، والجنود السوريين وهم يخترقون خطوط وقف النار في الهضبة السورية المحتلة.

ولم يكن أحدٌ في "إسرائيل" ليظن أن حرب حزيران ستكون آخر حروبها الخاطفة، وأنه سيتعين عليها منذ ذلك التاريخ أن تعد العدة لمواجهة نوع جديد من الجنود والمقاتلين، وأنواع جديدة من الحروب المتناسلة، وأنها لن تتبجح بعد اليوم بقياس حروبها بالساعات والأيام، بل وربما بالأسابيع والأشهر، وأن زمن انتصاراتها الفاقعة قد ولّى، لتحل محله أزمنة الانتصارات الملتبسة أو قُل الهزائم المتراكمة.

ما هي سوى أشهر معدودات، حتى كانت معركة الكرامة الخالدة، حين لقّن الجيش الأردني ومقاتلو المقاومة الفلسطينية الغزاة درساً لن ينسوه أبداً... لقد ظنوها نزهة قصيرة، وساعات معدودات ثم تنجز المهمة، لكنهم عادوا يجرجرون أذيال الخيبة، تاركين وراءهم آلياتهم المحترقة شاهداً على صلابة وبسالة المقاتل العربي، حين تتوفر له فرصة الاشتباك المباشر مع العدو.

ولولا "السياسة وحساباتها الخسيسة ودسائسها التي لم تتكشف بعد"، لكانت حرب أكتوبر 1973 بداية الانقلاب الاستراتيجي في موازين القوى وتوازناتها. يومها، لم ينقذ "إسرائيل" من الهجمات المتزامنة للجيوش العربية سوى دخول واشنطن المباشر في ميادين القتال وساحاتها وجسورها الجوية التي جاءت بالدبابات "ملقمة" بقذائفها إلى ساحة الحرب مباشرة.

يومها، أطرقت غولدا مائير رأسها تقلب خيار اللجوء إلى "ذاك الشيء" في ديمونا... انقلبت نشوة النصر الخاطف إلى كابوس ثقيل على العقول والصدور، ولم يكن قد مضى على الهزيمة سوى 6 سنوات فقط، تخللتها حرب استنزاف وعمليات الفدائيين على مختلف الجبهات وصعود ظاهرة المقاومة الفلسطينية لتعيد تصويب بعض صفحات التاريخ.

3 أشهر احتاجتها "إسرائيل" للوصول إلى بيروت واحتلالها، بعد مقاومة ضارية من المقاومة والحركة الوطنية اللبنانية... سجل لبنان أول هزيمة نكراء تلحق بـ"إسرائيل" وتجبرها على الانسحاب من عمقه وجنوبه تحت ضربات المقاومة اللبنانية، من دون مفاوضات، من دون قيد أو شرط، ومن دون اتفاقات سلام ولا معاهدات تطبيع، لتأتي بعد ذلك حرب تموز وحروب غزة المتكررة التي سجل العام 2008 أولها، وكانت آخر جولاتها في "ثأر الأحرار" قبل أسابيع قلائل والحبل على الجرار.

بعد مرور 56 عاماً على "النكسة"، تستبدل "إسرائيل" مفرداتها الطافحة بالخيلاء والغطرسة بالتقارير التي تتحدث عن ضعف جاهزية الجيش، وانكشاف الجبهة الداخلية، وصعوبة الدخول إلى أعشاش الدبابير في جنوب لبنان وجنوب فلسطين، وها هي جبهة الضفة الغربية تفتح نيرانها على نطاق واسع، برغم عمليات احتلالها وإعادة احتلالها المتكررة. ويأبى الجندي محمد صلاح في ذكرى النكسة إلا أن يذكّر "إسرائيل" بأن كامب ديفيد ليس قدر المصريين، وأنه لن يجلب لها سلاماً مضموناً وأمناً مستتباً.

وفوق هذا وذاك، وبرغم انهيارات "الجبهة الشرقية"، يطل على "إسرائيل" شبح "ما بعد الجبهة الشرقية" أو شرق الشرق في إيران، التي باتت اليوم مصدر قلق و"صداع مزمن" لنظرية الأمن القومي الأمني الإسرائيلية والتهديد الذي لا يضاهيه تهديد آخر، كما يتجلى في إجماع المستويين الأمني والسياسي في حكومة "إسرائيل" ومعارضتها سواء بسواء... ومثلما حلّ حزب الله بمقاومة أشد ضراوة واقتداراً محل المقاومة الفلسطينية في لبنان بعد حرب 1982، فإن إيران ستحل محل "الجبهة الشرقية" التي مضى على تشقق جدرانها أكثر من ثلث قرن، ولكن بقوة أكبر واقتدار لا يقارن.

والأهم من كل هذا وذاك أن "إسرائيل" تكاد تختنق اليوم بنتائج حرب 67، وربما لأنها خاطفة وسريعة، لم توفر لها الوقت والفرصة للخلاص من الديموغرافيا الفلسطينية... ولو أنها حسبت حساب 7 ملايين فلسطيني بين النهر والبحر، لربما أطالت أمد الحرب عمداً، وتمنعت عن وقف النار إلى حين مغادرة عبور آخر فلسطيني معبر رفح وجسر الملك حسين باتجاه الأردن ومصر... وأحسب أن في "إسرائيل" اليوم من يدعي "الحكمة بأثر رجعي" ويتحدث بهذه اللغة.

وستكتشف "إسرائيل" أن احتلالها الممتد لثلاثة أرباع القرن لجزء من الأرض والشعب الفلسطينيين، ولأكثر من نصف قرن، للجزء المتبقي منهما، إنما هو أحد الأسباب الرئيسة الكامنة وراء انفجاراتها الداخلية، فصعود اليمين الفاشي – العنصري هو ثمرة من ثمار الاحتلال، وتفشي الحريدية والقومية – الدينية فيها هو من التداعيات التي لا يمكن تفاديها للاحتلال المقيم والمُستدام... كما أن تفجر هواياتها الفرعية وتفشي حالة الاستقطاب الإقصائي في داخلها وبدء نشوء الميليشيات الاستيطانية المسلحة السائبة هو بدوره النتاج المنطقي المترتب على استعباد شعب آخر.

لقد نجحت "آلة الدعاية الغوبلزية" في تصوير "إسرائيل" كواحة للديمقراطية في صحراء الشرق الأوسط القاحلة، وتغنى قادتها وداعموهم بأنشودة "القيم المشتركة" التي تجمع "تل أبيب" بالغرب المتمدن، وأمكن لـ"دولة" الاحتلال الاستيطاني أن تتدثر بشرعية دولية لا تليق بها، حتى إن جنرالاتها امتلكوا الجرأة للزعم بأن "جيشهم" يتوفر على أعلى المنظومات الأخلاقية والقيمية بين جيوش العالم، ضارباً بعرض الحائط تاريخاً أسود من جرائم التطهير العرقي والإبادة الجماعية والمجازر التي رافقت نشأتها وصاحبتها، وكانت السبب في تهجير الفلسطينيين واقتلاعهم من أرضهم.

كل هذا يتبدد اليوم، و"إسرائيل" اليوم تواجه "خطر نزع الشرعية عنها"، والأهم أنها باتت توسم من قبل أوساط متزايدة بأنها "دولة" أبارتهايد، وأن طابعها الكولونيالي هو ما يشكل صورتها البشعة التي بدأت تتكشف في مرايا الرأي العام العالمي... "إسرائيل" التي طالما تبجحت بأن لديها "جيشاً لا يقهر"، تقف اليوم عاجزة عن التصرف حيال 7 ملايين فلسطيني مزروعين على أرضهم التاريخية.

نجحت "إسرائيل" في تدمير "حل الدولتين"، ولم تُبقِ سبيلاً لقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة، ولكنها في المقابل تدرك أتم الإدراك أن فكرة الدولة الواحدة، أياً كانت صورتها وشكلها، ستكون بداية النهاية لمشروعها الصهيوني... "إسرائيل" في حيرة من أمرها، ولا تجيد شيئاً سوى تأجيل طرح الأسئلة الوجودية الكبرى لزمن آت...

ليس الفلسطينيون وحدهم في "تيه"، فالإسرائيليون الذين خبروا التيه من قبل يعاودون اليوم اختباره من جديد، ومظاهر القوة التي يسعى الكيان لإسباغها على نفسه، تخفي تحت ظلالها مواطن الضعف وعوامل النخر... وكلما ذهبت "إسرائيل" بعيداً في "تمشرقها"، حلّت لحظة الحقيقة والاستحقاق وحان وقت طرح الأسئلة الوجودية.
العناوين الاكثر قراءة









 

العودة إلى المقالات