معهد “مجموعة الأزمات الدولية” صورة شاملة للعلاقات العراقية – التركية والتي برغم ثمراتها وتقدمها على أكثر من مسار، إلا أنها لا تزال تواجه تحديات عديدة وشائكة، بما في ذلك علاقات أنقرة بحزب العمال الكوردستاني، وإدارة المياه، وصادرات النفط، وممر “طريق التنمية” الاقتصادي، مذكرا بأن التقارب المستدام بينهما قد يقلص من حدة التوترات، ويعزز المرونة الاقتصادية لكليهما، ويساهم في ترسيخ الاستقرار في منطقة عرفت باضطراباتها، بينما من الضروري أن تعزز انقرة انخراطها مع “قوى الإطار التنسيقي” بالنظر إلى دوره السياسي الكبير في البلد.
وقال المعهد الدولي في تقرير له، إنه بعد سنوات من العلاقات المتوترة، فإن تركيا والعراق يرسمان مسارا نحو تقارب واعد لكلا البلدين وللشرق الأوسط ككل، إلا أن الكثير يتوقف على كيفية إدارتهما، والأطراف الأخرى، للعمليات المتشابكة لنزع سلاح حزب العمال الكوردستاني ودمج قوات سوريا الديمقراطية في الدولة السورية، بالإضافة إلى قضايا حساسة أخرى كإدارة المياه وصادرات النفط، واصفا الوضع بأنه يمثل “تحديات كبيرة” برغم أن المسار الحالي للعلاقات الثنائية “مشجع”، وأن البلدين اختارا التعاون بدلا من المواجهة.
علاقة بغداد وأنقرة
وبحسب التقرير، فإن التطورات المتوازية في العراق وتركيا ساهمت في إعادة صياغة العلاقات بين بغداد وأنقرة، مذكراً بأن العراق بدأ ينعم بمزيد من الاستقرار منذ أن أنزلت القوات العراقية، بمساعدة التحالف الدولي، هزيمة ساحقة بتنظيم داعش في أواخر العام 2017، مضيفا أن العراق شهد موجة من الاحتجاجات الشعبية في الفترة 2019-2020، لافتا إلى أن الهدوء النسبي لاحقاً أتاح للمسؤولين تحويل اهتمامهم من الأمن إلى النمو الاقتصادي، وتحسين الخدمات العامة، وسياسة خارجية تدعم هذه الأولويات.
وفي المقابل، فإن تركيا تقبلت الصعود السياسي للجماعات الشيعية المسلحة المدعومة من إيران في العراق، والتي ساهمت في الحملة العراقية على داعش، لافتا إلى أن أنقرة كانت قلقة من صعود هذه الفصائل، ليس فقط لعلاقاتها مع طهران، وإنما أيضا لصلاتها بحزب العمال الكوردستاني وقوات سوريا الديمقراطية في شمال شرق سوريا.
وتابع التقرير أن أنقرة تقبلت تدريجيا الواقع السياسي العراقي ما بعد داعش، وعززت نطاق انخراطها ليشمل العديد من القوى الشيعية المدعومة من إيران، وحصلت في المقابل على دعمها لتعاون ثنائي أوسع.
وأضاف أنه بالتوازي مع ذلك، بدأت تركيا تدرك أهمية السعي نحو التكامل الإقليمي مع العراق كوسيلة لتحقيق الاستقرار في محيطها، وتوسيع نطاق التواصل الاقتصادي، وحماية نفسها من الصراعات في مناطق أخرى.
واعتبر التقرير أن تزايد السلوك العملي لدى الجانبين، ساهم في تمهيد الطريق لإحراز تقدم في القضايا التي تثير التوتر في علاقات الجارتين، وخصوصا فيما يتعلق بقواعد حزب العمال الكوردستاني في شمال العراق والعمليات العسكرية التركية المتكررة، مشيراً إلى أن حكومة بغداد صنفت في مارس/آذار 2024، حزب العمال الكوردستاني كمنظمة محظورة، وذلك بعد حصولها على موافقة ضمنية من جماعات مدعومة من إيران للتعاون مع تركيا في كبح جماح الحزب، على أمل ضمان انسحاب القوات التركية من الأراضي العراقية.
وقال التقرير إن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قام في الشهر التالي، بزيارة العراق للمرة الأولى منذ أكثر من 12 عاما، وأبرم مع رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، اتفاقية إطارية استراتيجية، بالإضافة إلى 26 مذكرة تفاهم، لتعزيز التعاون في مجالات الأمن والتجارة والطاقة وإدارة المياه، في حين تعاون البلدان منذ ذلك الوقت في مبادرات متعددة، أبرزها “طريق التنمية”، والاتفاقية المائية من خلال آلية تمول عائدات النفط العراقي الاستثمارات التركية في تطوير البنية التحتية للمياه، إلى جانب التفاهم على تخطي النزاع الذي كان اوقف صادرات النفط العراقي عبر خط أنابيب العراق – تركيا لمدة عامين ونصف لافتاً أيضا إلى إطلاق أنقرة مبادرة سلام جديدة لإنهاء الصراع مع حزب العمال الكوردستاني الذي أعلن وقفا لإطلاق النار، وعن البدء بحل نفسه.
ورأى التقرير من شأن التوصل إلى حل دائم لنزاع حزب العمال الكوردستاني أن يزيل عقبة رئيسية أمام تعزيز العلاقات الثنائية، إلا أن مصير الحزب مرتبط أيضا ارتباطا قويا بمصير حليفه في شمال شرق سوريا، قوات سوريا الديمقراطية، التي تخوض محادثات مع دمشق حول دمج مؤسساتها في الدولة السورية الجديدة.
وتابع قائلا إنه “في حال تعثرت هذه المحادثات، قد تتعطل جهود السلام مع حزب العمال الكوردستاني، إلى جانب المشاريع العراقية التركية المشتركة”.
وأضاف أن السياسة العراقية قد تثير مشكلة أخرى حيث أنه من غير المرجح إعادة تكليف رئيس الوزراء محمد شياع السوداني الذي كان شجع على تطوير العلاقات مع أنقرة، بعد الانتخابات العراقية الأخيرة.
لكن العلاقات الثنائية لا يجب أن تتأثر. فحتى لو باءت جهود حزب العمال الكوردستاني لإحلال السلام بالفشل، ستظل لدى أنقرة وبغداد دوافع قوية للتعاون في مجالات الأمن والعلاقات الاقتصادية والاستقرار الإقليمي. هذه الأهداف جديرة بالسعي لتحقيقها، حتى وإن بقيت قضية حزب العمال الكوردستاني عقبة يمكن تجاوزها دون التغلب عليها. أن الائتلاف الذي سيُعيّن خليفة السوداني هو نفسه الذي عيّنه ووافق على التقارب مع تركيا؛ وليس من المؤكد أن يرغب هذا الائتلاف في أن يُغيّر رئيس الوزراء الجديد المسار.
وبينما قال التقرير إنه يجب على العراق إضفاء الطابع المؤسسي على اللجان الفنية التي تعمل على مختلف القضايا الثنائية، لضمان استمرارها بعد تداول السلطة بعد الانتخابات، فإنه يتحتم على تركيا الحفاظ على تواصل واسع مع مختلف الأطياف السياسية العراقية، مضيفا أنه من خلال التركيز على المصالح المشتركة والاستمرار بالحوار، سيكون بمقدور البلدين، تعزيز التقدم المحرز حتى الآن في الانتقال من انعدام الثقة إلى الشراكة.
تعزيز العلاقات والاضطرابات الإقليمية
وأكد التقرير أن الأحداث الجسيمة في المنطقة، بما فيها حرب الأيام الـ12 بين إسرائيل وإيران، والتي قد تندلع مجددا، وسقوط نظام الأسد، ستزعزع العلاقات الودية المتنامية بين تركيا بقيادة أردوغان والعراق بقيادة السوداني، بالإضافة إلى أن التغييرات في القيادة العليا في كلا البلدين قد تؤدي إلى زعزعة هذه العلاقات.
وأوضح التقرير أنه من غير المرجح أن يستمر السوداني، الذي بذل جهودا كبيرة لتلبية مطالب أنقرة بشأن حزب العمال الكوردستاني وروج لمشروع “طريق في منصبه كرئيس للوزراء، بينما لا يوجد ما يضمن أن يكون خليفته ملتزما بالعلاقة المزدهرة مع تركيا بنفس قدر التزام السوداني.
ومع ذلك، رأى التقرير أن هناك ما يدعو للتفاؤل، موضحا أن الائتلاف الحاكم المتمثل بالإطار التنسيقي الذي سبق له أن عين السوداني، يؤيد التقارب العراقي – التركي، وبمقدوره ضمان استمرار الحكومة المقبلة على هذا النهج إذا حافظ أعضاؤه على دعمهم السياسي له.
وستكون أنقرة وبغداد في أفضل وضع لتعزيز علاقاتهما إذا ما احرزت عملية حل النزاع بين أنقرة وحزب العمال الكردستاني تقدما. وقد اتخذ البلدان بالفعل خطوات فعّالة لمعالجة المظالم المشتركة المتعلقة بهذا الحزب. فقد اظهرت بغداد تفهمها لتصورات انقرة بشان التهديد من خلال التعاون للحد من نشاط حزب العمال الكردستاني في العراق.
وبالمثل، اقرت أنقرة بتصور بغداد للتهديد الذي يمثله وجودها العسكري على الأراضي العراقية، واتخذت تدابير لتحسين الوضع: فقد ساهم إضفاء الطابع الرسمي على التعاون الأمني، لا سيما فيما يتعلق بقاعدة زيلكان – التي أنشأتها تركيا من جانب واحد قبل أكثر من عقد من الزمان – في تخفيف حدة النقاش الداخلي في العراق حول ما يعتبره الكثيرون انتهاكات للسيادة التركية، على الأقل في الوقت الراهن.
وتابع التقرير أنه على المدى القريب، يتوقف المضي قدما فيما يتعلق بحزب العمال الكوردستاني على عاملين رئيسيين، أولهما مرتبط بما إذا كانت تركيا والعراق ستتخذان الخطوات اللازمة لحل الحزب وفقا لتعهداته، وثانيهما يتعلق بمدى تقدم المحادثات مع دمشق حول كيفية دمج قوات سوريا الديمقراطية في الدولة السورية الجديدة، إذ أنه في حال تعثرت هذه المفاوضات، فإن تركيا قد تتوصل إلى أن أفضل خيار أمامها هو اللجوء إلى العمل العسكري ضد قوات سوريا الديمقراطية، الأمر الذي قد يجدد بدوره إحياء الدعم العابر للحدود من جانب عناصر حزب العمال الكوردستاني.
وفيما يتعلق ببغداد، قال التقرير إنه رغم أن الحكومة لا تستطيع التأثير بشكل كبير على هذه العملية في سوريا، إلا أنه ينبغي عليها دعم المبادرة الجارية بين أنقرة وحزب العمال الكوردستاني، فضلا عن تعزيز الحوار التركي مع قوات سوريا الديمقراطية الذي يسهله رئيس إقليم كوردستان نيجيرفان بارزاني.
وتابع التقرير أن تداعيات الحرب الإيرانية – الإسرائيلية، واحتمال تجدد الأعمال العدائية والتوترات بين تركيا وإسرائيل، تشكل كلها عوامل غير متوقعة في العلاقات العراقية – التركية، مشيراً إلى أن إسرائيل وتركيا تتبنى سياسات متضاربة بشأن سوريا، حيث أنه بينما تسعى أنقرة إلى جار مستقر وموحد يحد من طموحات قوات سوريا الديمقراطية في الحكم الذاتي، في حين أن إسرائيل تنظر الى تعزيز السلطة في دمشق، كتهديد محتمل طويل المدى، وقد أبدت تعاطفا مع طموحات قوات سوريا الديمقراطية في الحكم الذاتي.
تراجع النفوذ الإيراني
وأضاف التقرير أن إيران تتراجع في المنطقة منذ اندلاع حرب غزة، ومن غير المرجح أن تعيد تنشيط جماعاتها التابعة لها في العراق قريبا، إلا أنه في حال فقدت عملية حزب العمال الكوردستاني زخمها، أو فشلت محادثات دمشق وقوات سوريا الديمقراطية، فقد تجد كل من إيران وإسرائيل، مصلحة في استغلال الفوضى التي قد تثيرها هذه التطورات في شمال شرق سوريا.
وأوضح التقرير أنه بالنسبة إلى إسرائيل، فإن من شأن الاضطرابات في شمال شرق سوريا أن تقوض وحدة الدولة السورية، وهو ما ستعتبره فائدة استراتيجية لها، بينما بالنسبة لإيران، قد يفتح ذلك طريقا لها للعودة إلى سوريا.
ورأت “مجموعة الأزمات الدولية” أنه من أجل حماية العراق من هذا السيناريو، فإنه يجب على أنقرة أن تحافظ على قنوات اتصالها مع المؤسسة الشيعية العراقية، بل وتوسيعها عند الضرورة، بما في ذلك مع أعضاء الشبكة المدعومة من إيران الذين يعارضون بشدة وجود القوات التركية على الأراضي العراقية، مضيفا أن ذلك قد يساهم في إدارة المخاطر وتصورات التهديد لدى الطرفين، لافتا إلى أن هذه العلاقات ستكون شديدة الأهمية للحفاظ على التعاون الأمني في حال خروج السوداني من السلطة.
وبالنسبة إلى مشروع “طريق التنمية” قال التقرير إنه يجب أن يتحول إلى أولوية استراتيجية قصوى لكل من العراق وتركيا، وأنه يتعين على أنقرة وبغداد تأمين التمويل الذي وعدت به دول الخليج، وعليهما أيضا تسريع المحادثات بشأن المسار الدقيق للممر.
وتابع التقرير أنه برغم أن مد الطريق عبر إقليم كوردستان سيكون أكثر تكلفة، إلا أن الفوائد السياسية والتنموية طويلة المدى، لإشراك حكومة الإقليم ستكون على الأرجح كبيرة. وأضاف قائلا إن “الحل الوسط يتمثل في ضمان ربط كوردستان بالطريق الرئيسي عبر طرق رئيسية حتى لو عبر هذا الطريق خارج حدود الإقليم”.
وإلى جانب ذلك، اعتبر التقرير أنه يتحتم على انقرة وبغداد طمأنة الدول الأخرى بأنها ستستفيد من المشروع، مضيفا أن العراق سيكون خصوصا بحاجة إلى استرضاء إيران بإكمال وتشغيل خط السكة الحديد والطريق بين الشلامجة والبصرة دون تأخير، وذلك لتسهيل حركة النقل التجاري.
وتابع أنه ينبغي على أعضاء الائتلاف الحاكم في بغداد والداعمين لـ”طريق التنمية” مواصلة جهودهم لاقناع المتشككين الأتراك من الطبقة السياسية بأن تعزيز التجارة عبر هذا الممر سيوفر إيرادات تشتد الحاجة إليها وفرص عمل في القطاع الخاص.
وبحسب التقرير، فإن بعض الجهات العراقية المتحالفة مع إيران، ستضع أولويات طهران في حساباتها عند تقييمها لموقفها من دعم المشروع أو معارضته أو حتى تخريبه، لافتا إلى أنه من غير المرجح أن تحاول هذه الجهات تخريبه إذا كانت ستجني مكاسب من الفرص التجارية التي سيخلقها.
وأكمل التقرير بالقول إنه يجب على من يقود العراق في المستقبل، أن يتخذ خطوات لحماية التقدم المحقق في العلاقات العراقية – التركية وضمان استدامتها. وبعدما لفت التقرير إلى أن المسؤولين الأتراك يرون ان استمرار المسار الحالي للعراق أمر بالغ الأهمية لترسيخ العلاقات، نقل عن مسؤول تركي قوله إنه “على مر السنوات، شهدنا تغييرات متكررة في المسؤولين العراقيين، وكان كل تغيير يعني البدء من الصفر واعادة بناء الثقة”، مضيفا أنه بسبب ذلك، فان انقرة كانت تصر على إنشاء لجان دائمة معنية بالمياه والطاقة والتجارة وغيرها من مجالات التعاون، وذلك في إطار اتفاقية الإطار للعام 2024 مع بغداد.
وتابع التقرير أنه من اجل ضمان استمرارية التعاون، فإنه يجب على حكومة تصريف الأعمال العراقية الحالية والحكومات اللاحقة، بذل الجهود للحفاظ على المسؤولين من المستوى المتوسط والفنيين في مناصبهم، بغض النظر عن التغييرات الوزارية، من أجل عدم خسارة خبراتهم في الملفات.
وخلص التقرير إلى حدوث تقدم غير مسبوق في العلاقات العراقية – التركية وذلك بفضل الحصول على دعم واسع من اللاعبين السياسيين العراقيين، بمن فيهم كثيرون ممن كانوا تاريخيا متشككين في السياسة التركية في العراق. وأضاف أنه من بين الخطوات الايجابية إشراك زعيم الحشد الشعبي فالح الفياض، في المفاوضات العراقية – التركية.
ولفت التقرير إلى أن الإطار التنسيقي الذي سيختار رئيس الوزراء المقبل ويضم مجموعة واسعة من الاحزاب الشيعية، سيستمر في ممارسة نفوذ كبير على السياسة الخارجية لبغداد، ولهذا فإنه من مصلحة أنقرة مواصلة الانخراط مع هذه الأحزاب وغيرها من الأحزاب العراقية قدر الإمكان.