تتواصل أزمة المياه في العراق بالتصاعد مع دخول البلاد مرحلة “الندرة” المائية، في ظل تراجع كبير في الإطلاقات القادمة من دول الجوار، وتنامي آثار التغير المناخي، وفشل الادارات الحكومية المتعاقبة في التوصل إلى اتفاقات مائية ملزمة تحفظ حقوق البلاد التاريخية في نهري دجلة والفرات.
وفي الوقت الذي تؤكد فيه الحكومة العراقية أن الاتفاق الإطاري الأخير مع تركيا يمثل مدخلاً لمعالجة الأزمة، يرى مختصون أن الاتفاق لا يحمل أي التزامات حقيقية من الجانب التركي، ولا يوفر حلولاً مباشرة لتأمين الحصة المائية للعراق.
وتفاقمت المخاوف بعد توقيع الآلية التنفيذية للاتفاق الإطاري بين بغداد وأنقرة مطلع تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، وسط تأكيدات رسمية تركية أن مشاريع البنية التحتية للمياه في العراق ستمول عبر مبيعات النفط العراقي، فيما لم تقدم تركيا على زيادة الإطلاقات المائية حتى الآن، رغم وعد سابق بإطلاق مليار متر مكعب “قريباً”.
“نفط مقابل ماء”
وفي هذا السياق تقول العضو السابقة في لجنة الزراعة والمياه والأهوار النيابية والفائزة في الدورة البرلمانية الجديدة ابتسام الهلالي، إن الاتفاقية الثنائية مع تركيا “لا تتضمن أي شروط ملزمة على أنقرة”، مؤكدة أنها جاءت بصيغة “النفط مقابل المياه”، ما يجعلها اتفاقاً تجارياً أكثر من كونها اتفاقاً سيادياً لتنظيم الحصص المائية.
وتوضح الهلالي أن تركيا هي التي ستتولى بناء السدود وإدارتها عبر شركات تركية حصراً، على الرغم من وجود شركات عراقية قادرة على تنفيذ هذه المشاريع، مبينة أن الاتفاقية، رغم ما أُعلن عنها، ما تزال “حبراً على ورق ولم تنفذ فعلياً”.
وانتقدت الهلالي الأداء الحكومي خلال المرحلة السابقة، معتبرة أن “الحكومة لم تكن بمستوى التحدي لمعالجة ملف المياه، وكانت هناك مجاملات على حساب المزارعين والفلاحين والشعب العراقي المهدد كله بشح المياه”.
وتحذر من أن عدم هطول الأمطار هذا الموسم قد يُدخِل البلاد في جفاف كبير، معتبرة أن “الحل الوحيد هو قطع العلاقات التجارية مع تركيا لإجبارها على منح العراق حصته المائية”.
الدفاع عن الحقوق
من جهته، يرى العضو السابق في لجنة الزراعة والمياه والأهوار النيابية ثائر مخيف الجبوري، أنه لا يوجد اتفاق إيجابي واحد لصالح العراق حتى الآن.
ويشير الجبوري إلى أن الاجتماع الأخير بين بغداد وأنقرة تناول احتساب حاجة العراق المائية بناءً على النسبة السكانية والاحتياجات اليومية والقطاعات الصناعية والزراعية، على أن تُدار باستخدام التقنيات الحديثة كالري بالرش والتنقيط.
لكن الجبوري يشدد على أن هذه المناقشات لم تُترجم إلى التزامات واضحة، مؤكداً أن “الحل يبدأ بوجود رئيس حكومة يدافع عن حقوق العراق المائية ويضع ملف المياه ضمن أولويات الأمن القومي”.
من الشحة إلى الندرة
أما الخبير المائي والزراعي تحسين الموسوي، فقد قال إن الاتفاقية الإطارية الأخيرة لم تتطرق إلى تحديد حصص العراق المائية إطلاقاً، ولم تعالج أي اتفاقات سابقة بهذا الخصوص، بل اقتصرت على إدارة السدود من قبل الشركات التركية.
ويلفت الموسوي إلى الاتفاق على إنشاء أربعة سدود تنظيمية لحصاد المياه تعتمد على السيول والأمطار والإيرادات الداخلية، وليست سدوداً مائية تعتمد على الإطلاقات الواردة من تركيا، معتبراً ذلك “اتفاقية مجحفة”، خصوصاً أن العراق تجاوز مرحلة الشحة إلى مرحلة الندرة في مياه الشرب والاستخدامات الأخرى.
وتوقع الموسوي حصول “كوارث مائية” خلال صيف 2026 إذا بقيت السياسات الحالية على حالها، في ظل تراجع غير مسبوق في مناسيب دجلة والفرات، وغياب الضمانات التركية بشأن الإطلاقات المائية.
الاتفاق المائي
وكان وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين ونظيره التركي هاكان فيدان قد وقعا مطلع تشرين الثاني/نوفمبر الجاري الآلية التنفيذية لاتفاقية التعاون الإطارية في مجال المياه، برعاية رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، الذي وصف الاتفاق بأنه “أحد الحلول المستدامة” لأزمة المياه.
وخلال المؤتمر الصحفي، اعتبر حسين أن وثيقة إدارة ملف المياه “الأولى من نوعها” في تاريخ العلاقات بين البلدين، كما سبق لوفد حكومي رفيع برئاسة وزيري الخارجية والموارد المائية أن زار أنقرة في تشرين الأول/أكتوبر الماضي لاستكمال مباحثات هذا الملف.
ورغم حديث تركيا عن نيتها إطلاق مليار متر مكعب من المياه بما “لا يؤثر على خزينها المائي الذي يبلغ 90 مليار م³”، فإن الإطلاقات لم تتحقق حتى الآن.
فيما ذكرت وسائل إعلام تركية رسمية أن مشاريع البنية التحتية للمياه في العراق ستمول عبر مبيعات النفط العراقي، وأن الاتفاق يفتح الباب أمام الشركات التركية للعمل في مشاريع استراتيجية داخل العراق.
وتأتي هذه التطورات في وقت يواجه فيه العراق أخطر موجة جفاف في تاريخه المعاصر، نتيجة لقلة هطول الأمطار وتراجعها لسنوات متتالية، وانخفاض الإطلاقات المائية من تركيا وإيران بسبب بناء السدود وتحويل مسارات الأنهار، وتفاقم آثار التغير المناخي الذي جعل العراق من بين أكثر خمس دول تضرراً عالمياً وفق تقارير الأمم المتحدة.
وتحذر تقارير دولية من أن العراق سيحتاج حتى عام 2040 ما يزيد على 233 مليار دولار لتحسين بنيته المائية والبيئية، أي ما يعادل 6% من ناتجه المحلي سنوياً، بينما فقدت البلاد نحو 30% من أراضيها الزراعية خلال العقود الثلاثة الماضية بسبب التغير المناخي.