لندن- “القدس العربي”: نشرت صحيفة “الغارديان” مقالًا للمعلق أوين جونز قال فيه إن غزة وصلت إلى نقطة تحوّل مروّعة، إذ ارتفع عدد من يدخلون المستشفيات أو يموتون جوعًا. وأصدرت نقابة الصحافيين في وكالة “فرانس برس” بيانًا حذّرت فيه من أنه “بدون تدخل، سيموت آخر المراسلين في غزة جوعًا”.
ويعلّق جونز أن هذا أمر صادم للغاية، لكنه ليس مفاجئًا؛ ففي النهاية، مضى أكثر من 140 يومًا على الحصار الإسرائيلي الشامل على غزة. ففي أيار/ مايو، ألغت إسرائيل طريقة الأمم المتحدة الفعّالة لإيصال المساعدات، واستبدلتها بنظام بائس يجبر الفلسطينيين على التنافس على كميات شحيحة من المساعدات، غالبًا ما تكون غير صالحة للاستخدام، ويُطلق عليهم النار أثناء ذلك. وقُتل نحو ألف مدني أثناء بحثهم عن الطعام منذ نهاية أيار/ مايو.
ويصرّح أليكس دي وال، أحد أبرز خبراء الجوع في العالم، قائلًا: “لم تُسجّل منذ الحرب العالمية الثانية حالة تجويع مُصمّمة ومتحكَّم بها بهذه الدقة”. وبموجب اتفاقيات جنيف، “يُحظَر تجويع المدنيين كأسلوب حرب”.
أليكس دي وال، أحد أبرز خبراء الجوع في العالم: “لم تُسجّل منذ الحرب العالمية الثانية حالة تجويع مُصمّمة ومتحكَّم بها بهذه الدقة”
ويشير جونز إلى سؤال طرحه كيت مالثاوس، الوزير السابق في حكومة المحافظين، يوم الاثنين في البرلمان، حين سأل وزير الخارجية ديفيد لامي عما إذا كان “لا يرى خطرًا شخصيًا على نفسه، في ظل التزاماتنا الدولية، بأن ينتهي به المطاف في لاهاي بسبب تقاعسه؟”. انحنى لامي على طاولة الرد، وتبنّى نبرة خيبة أمل متعالية كما يفعل المرء عند السعي إلى الترفّع على إهانة غير مبررة، وردّ قائلًا: “يجب أن أقول له إن إضفاءه طابعًا شخصيًا على حجّته بهذه الطريقة يحطّ من قدرها”.
لكن مالثاوس لم يوجّه إساءة. ولم يوبخه نائب رئيس مجلس النواب على أي لغة غير برلمانية. فقد خلط لامي عمدًا بين التدقيق والهجوم الشخصي لتجنّب الإجابة على السؤال.
ويقول جونز: “للأسف، رئيس وزرائنا، وهو محامٍ بالمهنة، كان عليه أن يعلم أن اتفاقية الإبادة الجماعية لعام 1948 تحدد خمسة أفعال يُعاقب عليها، أحدها “التواطؤ في الإبادة الجماعية”. وكان عليه أن يعلم أن الموقعين على الاتفاقية ملزمون قانونًا “بمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها”. وكان عليه أيضًا أن يعلم أن بلاده وقّعت الاتفاقية يوم نشرها وأدرجتها في القانون قبل 55 عامًا”.
الموقف الرسمي لإسرائيل هو أنه عند انتهاء هذه الحرب، لن يبقى أي فلسطيني في غزة، إذ يتباهى بنيامين نتنياهو قائلًا علنًا: “نحن ندمر المزيد والمزيد من المنازل، وليس لدى سكان غزة مكان يعودون إليه”. إنهم يبنون ما وصفه رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود أولمرت بأنه “معسكر اعتقال” كخطوة أولى قبل ترحيل الناجين من غزة.
ويقول إيال بنفينستي، المحامي الإسرائيلي الذي يشارك في الفريق القانوني الذي يدافع عنها أمام محكمة العدل الدولية ضد اتهامات الإبادة الجماعية، إن هذا يُعدّ “جريمة حرب” وينطبق عليه تعريف “جريمة ضد الإنسانية”. وقد وقّع لاحقًا على رسالة تعلن أن هذه الخطة “في ظل ظروف معينة، قد ترقى إلى جريمة الإبادة الجماعية”.
وفي الواقع، لا يترك القانون الدولي مجالًا للشك؛ فعندما صادقت بريطانيا على معاهدة تجارة الأسلحة عام 2014، وافقت على أنه يجب ألا “تُؤذَن بأي نقل للأسلحة التقليدية إذا كانت لديها علم وقت التصديق بأنها ستُستخدم في ارتكاب إبادة جماعية أو جرائم ضد الإنسانية أو جرائم حرب”. كما وافقت على أن هذا يشمل “أجزاء ومكونات” أساسية لتشغيل “الطائرات المقاتلة”. وتزوّد حكومة لامي إسرائيل بمكوّنات أساسية لتشغيل طائرات إف-35، التي تمزّق قنابلها البنية التحتية المدنية عشوائيًا وتُقطّع أجساد الأطفال الصغار.
ويعلم لامي أيضًا، بطبيعة الحال، أن بريطانيا عضو مؤسس في المحكمة الجنائية الدولية التي أصدرت العام الماضي مذكرات اعتقال بحق نتنياهو ووزير دفاعه السابق بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وعند دفاعها عن بيع مكوّنات طائرات إف-35 أمام المحكمة العليا، قدّمت الحكومة تقييمها بأنها لم تر أي دليل على استهداف النساء والأطفال عمدا في غزة، وأنه لا يوجد خطر جدّي من وقوع إبادة جماعية.
ويتناقض هذا مع شهادات عشرات الأطباء والممرضين الأمريكيين الذين خدموا في غزة العام الماضي وأكدوا أنهم تلقّوا جثث أطفال فلسطينيين أصيبوا برصاص قنّاصة إسرائيليين في الرأس أو الصدر. وقد اعترف جنود إسرائيليون باستهدافهم المتعمد للأطفال. يقول نِك ماينارد، وهو طبيب بريطاني يعمل في مستشفى ناصر بغزة، إنه يرى مجموعات من المراهقين الصغار أُصيبوا بطلقات نارية في أجزاء مختلفة من أجسادهم: في يوم تكون الإصابة في البطن، وفي يوم آخر في الرأس أو الرقبة، وفي يوم آخر في الخصيتين. ويضيف: “إذن هناك نمط واضح للغاية، وكأن هناك لعبة تُلعَب”.
لا تكتفي بريطانيا بتزويد إسرائيل بمكوّنات طائرات إف-35 الأساسية، بل ترفض حكومتها وصف أي فعل إسرائيلي بأنه “جريمة حرب”
ويتناقض الموقف الرسمي للحكومة البريطانية المتمثّل في إنكار الإبادة الجماعية مع إجماع علماء الإبادة الجماعية الذين يكرّسون حياتهم لدراسة هذا المجال. يشمل ذلك أكاديميين إسرائيليين مثل عومير بارتوف، الأستاذ البارز في دراسات الهولوكوست والإبادة الجماعية، الذي قال إنه بصفته ضابطًا سابقًا في الجيش الإسرائيلي عانى طويلًا للوصول إلى استنتاجه: “لكني أدرّس فصولًا عن الإبادة الجماعية منذ ربع قرن. أستطيع تمييز حالة عندما أراها”.
ويؤكد جونز أن أولئك الذين سهّلوا أو برّروا هذه الجريمة البشعة لا يملكون أعذارًا ولا مكانًا للاختباء. فقبل أكثر من عام، أعدّ الفريق القانوني لجنوب إفريقيا ملفًا من 121 صفحة يفصّل بيانات الإبادة الجماعية والنوايا الإجرامية الصادرة عن قادة ومسؤولين إسرائيليين، وهو الآن قديم بالكامل. هناك لقطات فيديو لمدنيين يُذبحون وبنية تحتية مدنية تُدمّر أكثر من أي جريمة حرب أخرى سُجّلت في التاريخ.
ومع ذلك، لا تكتفي بريطانيا بتزويد إسرائيل بمكوّنات طائرات إف-35 الأساسية، بل ترفض حكومتها وصف أي فعل إسرائيلي بأنه “جريمة حرب”، لأنها تعلم أن ذلك يفرض التزامات قانونية شاملة. وتواصل بريطانيا تجارتها السنوية مع إسرائيل، التي بلغت قيمتها العام الماضي 5.8 مليار جنيه إسترليني. وبعد أيام من تعليق محادثات معاهدة التجارة كخطوة رمزية، احتفلت السفارة البريطانية في إسرائيل بوصول المبعوث التجاري البريطاني. وعندما فرضت بريطانيا عقوبات على وزيرين إسرائيليين من اليمين المتطرف، فعلت ذلك بسبب “لغتهما المتطرفة المروّعة”، وليس بسبب أفعالهما، لأن الأخيرة تورّط الحكومة البريطانية. ويواصل المسؤولون رفض فرض عقوبات جدية على إسرائيل نفسها.
بحظر منظمة “بالستاين آكشن”، أكدت الحكومة أن معارضي الإبادة الجماعية هم من يواجهون تهديد المثول أمام المحكمة في هذه اللحظة
وبحظر منظمة “بالستاين آكشن”، أكدت الحكومة أن معارضي الإبادة الجماعية هم من يواجهون تهديد المثول أمام المحكمة في هذه اللحظة. ويقول جونز: “لا شك أن وزير خارجيتنا يعتقد أن الحصانة التي يتمتع بها القادة الغربيون وإسرائيل نفسها تقليديًا ستحميه هو وزملاءه إلى الأبد. هذا بافتراض أن الرياح لن تتغيّر أبدًا. ولا يوجد قانون تقادم للتواطؤ في الإبادة الجماعية. جريمة إسرائيل لم تكتمل بعد. لا بد أن لامي يعتقد أن حريته آمنة إلى الأبد: لن يطرق بابه أحد بعد خمس أو عشر أو عشرين سنة. هذا ما يراهن عليه”.