نيويورك- “القدس العربي”: قال أستاذ مرموق في دراسات الهولوكوست والإبادة الجماعية، إن صمت الكثيرين من زملائه حيال المجازر الإسرائيلية في قطاع غزة “يحوّل شعار ’لن يتكرر ذلك مجددًا‘ إلى مهزلة”، مشيرًا في مقال رأي نشرته صحيفة نيويورك تايمز إلى أن استنتاجه الحتميّ بات أن “إسرائيل ترتكب إبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني”.
وجاء المقال تحت عنوان: “أنا مختص في الإبادة الجماعية.. أعرفها حين أراها”.
وكغيره من عدد من الخبراء الذين ترددوا في البداية في استخدام مصطلح “الإبادة الجماعية” – وهو المصطلح الذي صاغه المحامي البولندي رافائيل ليمكين عام 1944 – توصّل أستاذ دراسات الهولوكوست والإبادة الجماعية في جامعة براون، عمر بارتوف، تدريجيًا إلى قناعة بأن ما تقوم به إسرائيل من تجويع ممنهج، وقصف للبنية التحتية المدنية، وتهجير قسري، وهجمات واسعة، يمثل عنفًا إباديًا.
بارتوف: الصمت على المجازر الإسرائيلية في غزة يحوّل شعار ’لن يتكرر ذلك مجددًا‘ إلى مهزلة
وأوضح بارتوف أنه بحلول أيار/ مايو 2024، “لم يعد من الممكن إنكار أن نمط عمليات جيش الاحتلال الإسرائيلي يتماشى مع التصريحات التي تنمّ عن نية إبادة، والتي أطلقها قادة إسرائيليون بعد هجوم حماس”، ومن بينها تهديد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بـ”تحويل غزة إلى ركام”، وتذكيره الإسرائيليين بما فعله “عماليق”، في إشارة إلى النص التوراتي الذي يأمر بـ”قتل الرجال والنساء والأطفال والرضع”.
وبحلول ذلك الوقت، كانت إسرائيل قد أمرت نحو مليون فلسطيني بالتوجّه إلى ما يُسمّى “المنطقة الآمنة” في المواصي، والتي سرعان ما أصبحت هدفًا للقصف.
وأضاف بارتوف أن دعوات مسؤولين إسرائيليين إلى “الإبادة الكاملة” لسكان غزة، البالغ عددهم أكثر من مليوني نسمة، أثبتت أن “أفعال الحكومة لا يمكن فهمها إلا كتطبيق لنوايا معلنة بجعل غزة غير صالحة للسكن”.
بارتوف: الهدف الواضح هو “إجبار السكان على مغادرة القطاع بالكامل، وتجويعه وتدميره إلى درجة يستحيل معها على الفلسطينيين الاستمرار أو إعادة بناء كيانهم كمجموعة
وأكد أن الهدف الواضح هو “إجبار السكان على مغادرة القطاع بالكامل، وتجويعه وتدميره إلى درجة يستحيل معها على الفلسطينيين الاستمرار أو إعادة بناء كيانهم كمجموعة”.
وتابع: “خلاصة استنتاجي التي لا مهرب منها هي أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني”، موضحًا أنه توصل إلى هذا الاستنتاج من موقع خبير نشأ في بيت صهيوني، وعاش النصف الأول من حياته في إسرائيل، وخدم في جيشها، وكرّس عقودًا من عمره لدراسة الهولوكوست وجرائم الحرب.
وأضاف: “لقد كان استنتاجًا مؤلمًا قاومته لأطول وقت ممكن. لكنني أدرّس دراسات الإبادة منذ 25 عامًا، وأعرف الإبادة حين أراها”.
وأشار إلى أن استنتاجه يستند إلى تدمير ما يُقدّر بـ174,000 مبنى، أي نحو 70% من مباني غزة، وقتل أكثر من 58,000 شخص، ثلثهم من الأطفال، وأكثر من 900 منهم لم يبلغوا عامًا واحدًا. كما قُتلت أكثر من 2,000 عائلة بأكملها.
الصحافية البارزة كريستيان أمانبور كانت قد أشارت في مقابلة سابقة مع بارتوف في ديسمبر/ أيلول الماضي إلى استنتاجه نفسه، حيث قال آنذاك: “إذا نظرنا إلى نمط ما يقوم به الجيش الإسرائيلي، فسنرى أنه لا يكتفي بنقل السكان من مكان إلى آخر، بل يقصف كل منطقة يُقال إنها آمنة”، مضيفًا: “هو يدمر الجامعات والمدارس والمساجد والمتاحف والمستشفيات – كل ما يُشكّل بنية حياة وصحة وثقافة لشعب بأكمله، ولذلك فنحن أمام مجموعة بشرية جرى إنهاكها وتفتيتها بشكل منهجي”، وفقاً لمنصة “كومن دريمز”.
وجاء نشر مقال بارتوف بالتزامن مع إعلان مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، عن توثيقه استشهاد 875 فلسطينيًا أثناء محاولتهم الحصول على مساعدات، غالبيتهم في محيط مراكز توزيع تديرها “مؤسسة غزة الإنسانية” (GHF) – وهي هيئة خاصة مدعومة من إسرائيل والولايات المتحدة ورفضتها الأمم المتحدة بسبب غياب الحياد في عملها.
وأفاد المكتب بأن “آخر هذه الحوادث الدامية وقع في التاسعة من صباح الإثنين 14 يوليو/ تموز الجاري، عندما أطلقت قوات الاحتلال قذائفها باتجاه فلسطينيين كانوا يبحثون عن طعام في موقع GHF في منطقة الشكوش شمال غرب رفح”، ما أدى إلى استشهاد شخصين على الأقل وإصابة تسعة آخرين. وكان مستشفى رفح قد استقبل قبل أيام أكثر من 130 مصابًا، معظمهم أصيبوا بطلقات نارية أثناء محاولتهم الوصول إلى مراكز توزيع الغذاء.
وفي مايو/ أيار الماضي، قال المدير التنفيذي السابق لمنظمة “هيومن رايتس ووتش” أرييه نير، والذي تردد بدوره في وصف الهجوم الإسرائيلي بأنه إبادة، إن “السياسة الإسرائيلية المستمرة في منع وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة” هي ما دفعه لتبني هذا التوصيف.
وفي حين تواصل إسرائيل دعم عمليات توزيع المساعدات من خلال مؤسسة GHF، فإنها تمنع إدخال المساعدات الفعلية عبر المعابر، وتحظر على المنظمات الإنسانية المحترفة توزيع الغذاء على الفلسطينيين الجائعين.
وكتب بارتوف أن إسرائيل طالما أصرت على أن “أي تهديد لأمنها يجب أن يُنظر إليه باعتباره نذيرًا بعودة أوشفيتز”، مدعيةً أن حربها على غزة موجهة ضد حماس التي تُصوَّر على أنها العدو النازي الجديد.
وتابع: “المشاهد اليومية المروعة في غزة، والتي تُحجب عن الجمهور الإسرائيلي بفعل الرقابة الذاتية للإعلام المحلي، تكشف زيف الدعاية الإسرائيلية التي تزعم أن هذه حرب دفاعية ضد عدو شبيه بالنازيين”.
من جهته، علّق الاستراتيجي السياسي التقدمي وليد شهيد على استنتاجات بارتوف، معتبرًا أنها تناقض تصريحات زعيم الأقلية الديمقراطية في مجلس الشيوخ الأمريكي تشاك شومر، الذي قال في مارس/ آذار الماضي إن وصف ما يحدث في غزة بالإبادة هو شكل من “معاداة السامية”.
وحذّر بارتوف من أن إصرار المؤسسة السياسية الأمريكية – التي تمثل أكبر داعم دولي لجيش الاحتلال – إلى جانب كثير من الأكاديميين المختصين في دراسات الهولوكوست، على تجاهل حقيقة ما يجري، قد يجعل من المستحيل “الاستمرار في تدريس ودراسة الهولوكوست بنفس الأسلوب السابق”.
وختم بالقول: “ما يدعو إلى القلق أيضًا هو أن دراسة الإبادة كمجال أكاديمي قد تنهار تحت وطأة تهم معاداة السامية، ما يتركنا بلا مجتمع علمي وقانوني يدافع عن القيم الأساسية التي قامت عليها هذه الجهود الأكاديمية والثقافية والسياسية في القرن العشرين”.
وأعرب عن أمله بأن “تواجه الأجيال الجديدة من الإسرائيليين مستقبلها بعيدًا عن الاحتماء الدائم بظل الهولوكوست”، مشيرًا إلى أنهم سيضطرون، في المقابل، “لتحمل وصمة الإبادة الجماعية في غزة التي ارتُكبت باسمهم”. وأضاف:
“على إسرائيل أن تتعلم كيف تعيش دون أن تتخذ من الهولوكوست ذريعة للوحشية.”