في خِطابه الذي ألقاه أمس إحياء لذِكرى شُهداء المُقاومة ابتداءً من الشيخ راغب حرب ومُرورًا بالسيّد عباس الموسوي، وانتهاءً بالحاج عماد مغنية، قائد الجناح العسكري لحزب الله، كان السيّد حسن نصرالله في قمّة الثّقة والارتِياح، ولم تُفارق الابتِسامة مُحيّاه، وعزّز هذا الخِطاب ببعض المقاطع السياسيّة السّاخرة أعطت له نكهةً خاصّة، عندما قال إنّ الحزب بات يُنتج الطّائرات “المُسيّرة” ويملك فائضًا منها، ومن يُريد الشّراء أن يتقدّم بطَلبٍ، أو التّعليق السّاخر الآخَر الذي قال فيه إنّ العدوّ الإسرائيلي في حالةِ قلقٍ وانحِدار، والآلاف بدأوا بالرّحيل، وأعرب عن استِعداده لدَفع أثمان تذاكر من يُريدون المُغادرة.
السيّد نصر الله الذي يحرص على مُتابعة مُعظم تقارير ودراسات وتصريحات جِنرالات دولة الاحتِلال، إن لم يكن جميعها، كان في هذا الخِطاب يرد على بعض ما ورد في التّقرير الاستِراتيجي الإسرائيلي السّنوي الذي يُحَدِّد الاخطار التي تُهَدِّد الكيان ومصادرها، وتضع “حزب الله” في المرتبة الثانية بعد إيران، وقبل حركات المُقاومة في فِلسطين المُحتلّة، وخاصَّةً ما قاله الجِنرال عيران نيف، قائد تطوير القِتال في الجيش الإسرائيلي، الذي “هدّد بأنه في حال تجاوز حزب الله حاجِز الألف صاروخ من الطّراز الدّقيق، فإنّ إسرائيل ستكون مُضطَرّةً لشنّ حرب على الحزب في لبنان”.
كان لافتًا أن السيّد نصرالله أراد إرسال عدّة رسائل من خِلال هذا الخِطاب:

الأولى: أن مصانع حزب الله العسكريّة استطاعت تحويل “آلاف الصّواريخ” الباليستيّة العاديّة إلى صواريخٍ دقيقة، وبفضل التكنولوجيا الإيرانيّة، ولم يعد الحزب بحاجةٍ إلى جلب هذا النّوع من الصّواريخ من إيران، عبر العِراق وسورية، وتعرّض قوافله للقصف الإسرائيلي بين الحِين والآخَر.
الثانية: أن المؤسّسة الأمنيّة التابعة للحزب تملك قُدرات رصد عالية جدًّا، واستطاعت التوصّل إلى معلوماتٍ دقيقة تؤكّد بأنّ دولة الاحتِلال تُرسل العُملاء لمعرفة أماكن هذه الصّواريخ تمهيدًا لضربها ولهذا أعدّت العُدّة للتصدّي لأيّ مُحاولةٍ إسرائيليّة للعُدوان، واتّضح ذلك من تصريحات السيّد بأن “أنصاريّة 2” جاهزة وقادمة، في إشارةٍ إلى عمليّة “أنصاريّة” التي كانت عبارة عن مصيدة لوحدة إسرائيلية خاصّةّ نفّذت عُدوانًا في الجنوب ضدّ أهداف للحزب، وقال مازحًا “ابحث يا احتِلال مِثل ما بدّك”، نحن في الانتِظار.
الثالثة: أن معامل إنتاج الصّواريخ والمُسيّرات مُتفرّقة، وليست مُركّزة في مكانٍ واحد، ومن المُحتمل أن تكون في عُمُق جبال جنوب لبنان الشّامخة، أيّ أن ضربها حتى في حال معرفة مكانها، لن يكون مُجديًا.

لن نتعرّض في هذا المقال لما ورد في الخطاب من قضايا تتعلّق بالشّأن الدّاخلي اللبناني، ليس لأنّها ربّما لا تهم القارئ العربي الذي يُشكّل أغلبيّة قُرّاء هذه الصّحيفة، وإنّما تجنّبًا للابتِعاد عن التكرار، ولكن التحدّي الأكبر الذي نعتقد أنه سيحتل العناوين الرئيسيّة فيما هو قادم من أيّام يتمثّل في مسألة المُفاوضات المُتعلّقة برسم الحُدود اللبنانيّة البحريّة حيث احتِياط النفط والغاز في المِياه الإقليميّة، ولعلّ كشف السيد نصر الله عن المخزونات الهائلة من الصّواريخ الدّقيقة والمُسيّرات هو رسالة تحذير للإسرائيليين وحُلفائهم وعُملائهم في لبنان في هذا المِلف.
لا نعرف السِّر وراء حالة الارتِياح والانشِراح التي كانت واضحة على وجه السيّد نصر الله، فهل هي عائدة إلى “أنباء سارّة” سمعها من المسؤولين الإيرانيين الذين التقاهم أثناء زيارته السريّة المُفترضة إلى طِهران التي تحدّثت عنها بعض الصّحف الإسرائيلية قبل يومين إذا كانت صحيحة، أو إلى الثّقة المُطلقة بقُدرات حزب الله القتاليّة، المُعزّزة بالمُسيّرات والصّواريخ الدّقيقة، التي تتعاظم بشَكلٍ مُتسارع هذه الأيّام، أو الحالين معًا؟
إذا كان من حق مراكز الأبحاث الاستراتيجيّة العسكريّة والسياسيّة الإسرائيليّة الحِرص على تحليل خطابات السيّد نصر الله، ومُتابعة ملامح وجهه ومخارج الألفاظ أثناء إلقائها من خُبراء بارزين في هذا العلم، فإنّ من حق المحليين العرب والمُسلمين، في محور المُقاومة أو حتى المُعادين له، فِعل الشّيء نفسه، لأنّها خِطابات مُختلفة، حافلة بالمعلومات، والقراءات الدّقيقة للأحداث في مِنطقتنا.. واللُه أعلم.
“رأي اليوم”