بغداد/المسلة: يفرض استمرار التواجد العسكري التركي في شمال العراق إعادة تقييم طبيعة العلاقات الأمنية والسياسية بين أنقرة وبغداد، كما يكشف التباينات العميقة بين الالتزامات الرسمية والطموحات الاستراتيجية التركية في المنطقة، بما يتجاوز حدود الاتفاقيات الثنائية القائمة.
ويوضح ظهور تعزيزات عسكرية جديدة في قاعدة بعشيقة خلال الأشهر الأخيرة أن أنقرة لا تتعامل مع الانسحاب العسكري ببساطة، بل تسعى لترسيخ موقعها في نقاط استراتيجية ذات أهمية جيوسياسية، تشمل السيطرة على ممرات حيوية وربط النفوذ العسكري بحماية مصالح اقتصادية حيوية، خاصة في قطاعات الطاقة والتجارة العابرة للحدود.
ويسلط تمدد التواجد العسكري التركي خارج نطاق الاتفاق الأمني المسموح به الضوء على ديناميكية مزدوجة: سياسية داخلية تركية تحرص على تقديم صورة الحزم تجاه حزب العمال الكردستاني، واستراتيجية إقليمية تهدف لتوسيع دائرة النفوذ في المناطق الكردية العراقية دون دفع ثمن دبلوماسي واضح، ما يخلق حالة من التوتر المستمر مع بغداد ويضعها أمام تحديات إعادة ضبط السيادة على أراضيها الشمالية.
و لا يغير إعلان حزب العمال الكردستاني نزع السلاح في الواقع من الطموحات التركية، بل يضيف بعداً جديداً للتساؤلات حول أهداف أنقرة الحقيقية، خصوصاً مع وجود أكثر من 80 ثكنة ونقطة مرابطة عسكرية، ما يشير إلى رغبة في خلق واقع ميداني دائم على الأرض، يعيد تشكيل المعادلة الأمنية والسياسية في الإقليم، ويجعل أي تحرك عراقي تقليدي محدود التأثير.
ويعزز عدم وجود موقف عراقي موحد وواضح على المستويين السياسي والدبلوماسي الفرص التركية لإعادة تعريف قواعد اللعبة، ويفتح المجال أمام سيناريوهات متعددة تشمل بسط النفوذ العسكري والسياسي على حساب سيادة الدولة العراقية، ما يستدعي التفكير في آليات ضغط إقليمية ودولية لإعادة التوازن وحماية حقوق العراق السيادية.
و يتطلب إعادة النظر في ملف الوجود التركي تحليلا شاملا للمصالح الاقتصادية والاستراتيجية، والتنسيق بين القوى السياسية العراقية لإنتاج رؤية موحدة تحمي شمال العراق من أن يتحول إلى منطقة نفوذ دائم للقوات التركية، بعيداً عن أي اتفاقيات رسمية محددة مسبقاً، ما يستدعي مقاربة طويلة المدى للسياسة الخارجية العراقية مع جيرانها.