يتجدد الجدل في العراق حول ملف الرسوم الكمركية الذي يُعد أحد أبرز مصادر الإيرادات غير النفطية، لكنه في الوقت نفسه من أكثر الملفات فسادًا وتعقيدًا. وبينما تؤكد لجنة الاقتصاد والاستثمار النيابية أن الحكومة لم تتعامل بجدية مع مقترحات إصلاح هذا الملف، يرى خبراء الاقتصاد أن غياب الأتمتة والرقابة الصارمة يهددان بانهيار منظومة الجمارك وفقدان مليارات الدنانير سنويًا.
أكد عضو لجنة الاقتصاد والاستثمار النيابية، النائب حسين علي، الأربعاء، أن الحكومة لم تتعامل بجدية مع المقترحات التي قدمتها اللجنة منذ فترة طويلة بشأن إصلاح ملف استيفاء الرسوم الكمركية، رغم ما يشوبه من فساد وتأثيرات شخصية واسعة.
وقال علي إن “ملف استيفاء الرسوم الكمركية ما زال يعاني من فساد واسع وتدخلات غير قانونية”، موضحًا أن “الملف ينقسم إلى جانبين، أحدهما يتعلق بضعف أداء الحكومة، والآخر مرتبط بتغلغل الفساد”.
وأضاف أن “لجنة الاقتصاد والاستثمار شخصت جميع السلبيات في هذا الملف، وقدمت مجموعة من المعالجات كجزء من مقترح رسمي إلى الحكومة”، مبينًا أن “الحكومة حتى الآن لم تأخذ بتوصيات اللجنة، ما يثير الاستغراب ويعكس عدم الجدية في معالجة هذا الملف الحساس”.
وأشار إلى أن “هناك تفاوتًا كبيرًا في استيفاء الرسوم على البضائع، حيث تُفرض مبالغ مرتفعة على بعض الشحنات، في حين تُفرض مبالغ زهيدة على أخرى نتيجة المحسوبيات والتدخلات الشخصية”، لافتًا إلى أن “هذا التفاوت يؤدي إلى الإضرار بالمنافسة العادلة ويشجع على التهرب الجمركي”.
ويُعد ملف الكمارك من بين أكثر الملفات فسادًا في العراق، في ظل غياب آليات حديثة للرقابة، وعدم وجود إجراءات فعّالة للحد من التجاوزات في المنافذ الحدودية البرية والجوية والبحرية.
من جانبه، يرى الخبير الاقتصادي طه الجنابي أن ملف الجمارك يمثل “أحد أهم مفاصل الاقتصاد الوطني، لكنه يُدار اليوم بطريقة تقليدية تُفقد الدولة مليارات الدنانير سنويًا”.
وقال الجنابي إن “الإصلاح الجمركي يجب أن يبدأ من الأتمتة الشاملة للعمليات، وربط جميع المنافذ بنظام إلكتروني موحد يضمن الشفافية ويغلق الباب أمام التلاعب والمحسوبيات”، مشيرًا إلى أن “الاختلاف في آليات الاستيفاء بين المنافذ الاتحادية ومنافذ إقليم كردستان خلق حالة من الفوضى وعدم المساواة في تحصيل الإيرادات”.
وأضاف أن “استمرار التداخل بين الجهات الأمنية والإدارية في إدارة المنافذ جعل من الصعب ضبط حركة البضائع وتطبيق القانون بعدالة، الأمر الذي يتطلب وجود هيئة موحدة ومستقلة للإشراف على المنافذ وتطبيق النظام الجمركي”.
وشدد الجنابي على أن “إصلاح الجمارك ليس مجرد إجراء إداري، بل هو جزء من عملية بناء الثقة بين المواطن والدولة، لأن الإيرادات الجمركية تمثل مورداً أساسياً للخدمات العامة، وأي تهاون في إدارتها ينعكس سلباً على الاقتصاد الوطني ككل”.
تُشير تقديرات اقتصادية إلى أن العراق يخسر سنويًا ما بين 4 إلى 6 تريليونات دينار بسبب الفساد والتهرب في المنافذ الحدودية، فيما لم تنجح خطط الحكومة السابقة في توحيد آليات التحصيل أو القضاء على المنافذ غير الرسمية المنتشرة على حدود البلاد.
ووفقًا لتقارير رقابية، تُدار بعض المنافذ من قبل جهات متنفذة تفرض رسوماً خارج القانون، في حين تُستخدم أخرى لتسريب بضائع دون تسجيل رسمي، ما يجعل من النظام الجمركي العراقي أحد أكثر الأنظمة هشاشة في المنطقة.
وكانت الحكومة قد أعلنت خلال العام الماضي عن خطة لأتمتة العمل الجمركي وربط المنافذ بشبكة إلكترونية موحدة، لكن المشروع واجه عراقيل فنية وإدارية، ولم يُنفّذ سوى في عدد محدود من المنافذ.
ومع تصاعد المطالبات النيابية والرقابية بإصلاح هذا الملف، يبقى السؤال مفتوحًا حول مدى استعداد الحكومة لمواجهة شبكات الفساد المتغلغلة داخل النظام الجمركي، وإعادة بناء منظومة إيرادات عادلة وشفافة تُسهم في تخفيف اعتماد البلاد على النفط كمصدر رئيسي للدخل.