باريس ـ «القدس العربي»: بعد حوالي ثلاثة أشهر من عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في كانون الثاني/يناير الماضي، دخلت إدارته في مفاوضات جديدة مع إيران بشأن برنامجها النووي، الذي كان ترامب نفسه قد انسحب بشكل أحادي من الاتفاق الدولي حوله، في عام 2018 خلال فترته الرئاسية الأولى. أعطى ترامب لهذه المفاوضات الجديدة، التي لم تؤدِّ إلى التوصل إلى اتفاق على الرغم من أن الطرفين وصفاها بأنها «بنّاءة»، مهلة 60 يومًا. مع انتهاء هذه المهلة، شنّت إسرائيل على إيران هجوما غير مسبوق، أكدت واشنطن أنه لم يكن بالتنسيق معها، وذلك في وقت أكدت فيه عدة مصادر أن ما حصل كان مُنسّقًا منذ البداية مع إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. لاحقا، صّرح وزير الدفاع الأمريكي بيت هيغسث، يوم الثالث والعشرين من حزيران/يونيو الماضي، بعد دخول بلاده على خط الحرب الإسرائيلية – الإيرانية من خلال شن ضربات ضد المنشآت النووية الإيرانية، صرّح بأن العملية العسكرية كان مُخططًا لها.
انسحاب أحادي
قبل اندلاع الحرب مع إسرائيل بسنوات، كانت إيران أصلاً قد تحرّرت تدريجيًا من التزاماتها النووية منذ عام 2018 – أي منذ الانسحاب الأمريكي أحادي الجانب من الاتفاق النووي، يُعرف أيضًا باسم خطة العمل الشاملة المشتركة «JCPoA») – وذلك خلال الفترة الرئاسية الأولى لدونالد ترامب ( 2020-2016). ليُصبح الاتفاق منذ ذلك الحين شبه منتهي. وأتت حرب «الإثني عشر يوماً» لتزيد الطين بلّة وتعقد الوضع تمًاما. حيث أدت إلى تأخير البرنامج النووي الإيراني، وأوقفت المفاوضات بين طهران وواشنطن، ومثلها المحادثات مع مجموعة الترويكا الأوروبية (فرنسا وبريطانيا وألمانيا)، وأكثر من ذلك دفعت طهران إلى تعليق التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية متهمة إياها بالتحيز والتواطؤ مع إسرائيل. ومنذ ذلك الحين، لم تتمكن الوكالة من الاطلاع على ما دُمّر أو حُفظ من البرنامج النووي الإيراني عقب الضربات الإسرائيلية الأمريكية. وما أثار أكثر استياء الغرب والوكالة الدولية للطاقة الذرية، أن طهران تُهدد الآن علنًا وبشكل متزايد بالانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي.
دبلوماسية تحت الضغط
ومع ذلك يمكن القول إن التطورات الجديدة، بسبب حرب «الإثني عشر يومًا» أعادت دول ما يُعرف بالترويكا الأوروبية فرنسا وبريطانيا وألمانيا، الموقعة على خطة العمل الشاملة المشتركة «JCPoA» عام 2015، إلى قلب اللعبة، بعد أن أخرجها ترامب منها بشكل أو بآخر عقب عودته إلى السلطة ودخول إدارته في مفاوضات مباشرة وغير مباشرة مع طهران. وحاولت هذه الدول، التي لم تُهدِّئ مخاوفها بشأن البرنامج النووي لطهران، رغم الهجمات الإسرائيلية الأمريكية ضد إيران ومنشآتها النووية؛ حاولت إعطاء فرصة جديدة للدبلوماسية من خلال الضغط من أجل أن تعود إيران إلى طاولة المفاوضة تحت طائلة العقوبات، عبر تفعيل «آلية الزناد» Snapback.
شهدت نهاية شهر تموز/يوليو المُنصرم عقد محادثات دبلوماسية جديدة، في إسطنبول التركية، بين مفاوضين من إيران ونظرائهم من دول الترويكا الأوروبية (فرنسا- ألمانيا- بريطانيا)، هي الأولى من نوعها منذ الهجمات على منشآت نووية إيرانية في شهر حزيران/يونيو في خضم الحرب بين إسرائيل وطهران. وصف دبلوماسيون إيرانيون المحادثات بأنها كانت «صريحة»، مشيرين إلى أنه تم الاتفاق على مواصلة المشاورات. كما اعتبرت طهران أن اجتماع إسطنبول شكّل فرصة «لتصحيح» موقف هذه القوى الأوروبية من البرنامج النووي الإيراني.
في المقابل، تمسّكت دول الترويكا الأوروبية الثلاث باتفاق عام 2015، الذي أبرمته مع طهران إلى جانب كلّ من الولايات المتحدة والصين وروسيا؛ ونصّ على فرض قيود كثيرة على البرنامج النووي الإيراني في مقابل رفع تدريجي لعقوبات الأمم المتّحدة عن طهران، قبل أن يعود الاتفاق إلى نقطة الصفر بعد انسحاب الولايات المتحدة منه في 2018، خلال الولاية الأولى للرئيس دونالد ترامب، مع إعادة فرض عقوبات قاسية على طهران. غير أن باريس ولندن وبرلين تمسّكت، من جانبها، بالاتفاق، مع التشديد على الرغبة في مواصلة التجارة مع طهران، وهو الأمر الذي جنّب الأخيرة إعادة فرض العقوبات الأممية أو الأوروبية عليها. واليوم، تتّهم العواصم الأوروبية الثلاث طهران بعدم الوفاء بالتزاماتها وتهدّدها بإعادة فرض العقوبات عليها بموجب «آلية الزناد» (Snapback) المنصوص عليها في الاتفاق، والتي من المقرر أن تنتهي صلاحيتها يوم الثامن عشر من شهر تشرين الأول/اكتوبر المقبل، ما يعني أنه سيكون بالإمكان إعادة فرض العقوبات الأممية على طهران. وهي ورقة ضغط يواصل الأوروبيون التلويح بها في وجه إيران.
عقب اللقاء في تركيا، وجّه وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، رسالة إلى الأمم المتحدة أكد فيها أن دول الترويكا لا تملك أي شرعية «قانونية أو أخلاقية» لتفعيل آلية إعادة فرض العقوبات، مهدداً باستبعاد الدول الأوروبية الثلاث من أي مفاوضات مستقبلية إذا أقدمت على ذلك. وهو موقفٌ رفضه وزراء خارجية ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة، في رسالة أرسلوها إلى الأمم المتحدة، حيث أدرجوا قائمة «غير شاملة» بالالتزامات النووية التي تعهدت بها إيران ضمن اتفاق 2015 والتي «لم تلتزم بها»، خصوصاً تراكم مخزون من اليورانيوم المخصب «يزيد بأكثر من 40 مرة» عن الحد المسموح به في الاتفاق.
مهلة نهائية
وهذا الأسبوع واصلت دول الترويكا الأوروبية ضغوطها، حيث أبلغت مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة والوكالة الدولية للطاقة الذرية بأنها تمنح إيران مهلة حتى نهاية آب/أغسطس الجاري لمعالجة مخاوف المجتمع الدولي بشأن برنامجها النووي. وجاء في الوثيقة، التي وقّعها كل من وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو، ووزير الخارجية الألماني يوهان فادفول، ووزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي: «لقد أوضحنا أنه إذا لم تكن إيران مستعدة للتوصل إلى حل دبلوماسي قبل نهاية آب/أغسطس، أو إذا لم تغتنم فرصة التمديد، فإن دول الترويكا الأوروبية مُستعدة لتفعيل آلية إعادة فرض العقوبات». وفقًا للرسالة التي بعثتها الدول الأوروبية الثلاث، سيُمنح تمديد الموعد النهائي لتفعيل آلية الزناد (Snapback) – في تشرين الأول/اكتوبر – مقابل استئناف إيران للمفاوضات مع الولايات المتحدة ومعالجة أكثر مخاوف المجتمع الدولي إلحاحًا بشأن شفافية برنامجها النووي ونطاقه، وذلك لضمان طابعه السلمي، وهو ما تشدد عليه طهران مراراً وتكراراً. وتتضمن هذه الشروط تحديدًا وصول الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى المواقع النووية الإيرانية واستئناف المناقشات مع الولايات المتحدة، للتوصل إلى اتفاق جديد يحكم برنامج طهران النووي، الذي ترى واشنطن أنه يمثل مساراً نحو تطوير أسلحة نووية، ويجب التخلي عنه.
عودة التعاون مع وكالة الطاقة الذرية
في مواجهة الضغوط الأوروبية، استأنفت إيران التواصل مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي زار نائب مديرها ماسيمو أبارو، طهران يوم الحادي عشر من آب/اغسطس الجاري، في أول خطوة من نوعها منذ حرب الأيام الاثني عشر، في حزيران/يونيو الماضي، وتعليق إيران التعاون مع الوكالة على خلفية موقفها من هذه الحرب. وقد صرّح نائب وزير الخارجية الإيراني، أنه تم الاتفاق على مواصلة المشاورات مع الوكالة الدولية الذرية بعد مناقشات حول «آلية التفاعل بين الوكالة وإيران». كما أوضح أن بلاده ستقبل قيودًا مؤقتة على برنامجها مقابل رفع العقوبات، من دون تحديدها، مشيرًا إلى أن القنوات الدبلوماسية مع واشنطن «ما تزال مفتوحة».
ويعتبر الدكتور إياد المجالي، الباحث في العلاقات الدولية والشؤون الإيرانية، في تعليق لـ«القدس العربي»، أن إيران «انصاعت» مُجددًا للتهديدات التحذيرات الأمريكية بعدم اتخاذ أي إجراءات من شأنها أن تنهي التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. كما يرى مراقبون، بمن فيهم الباحث في معهد الأمن العالمي والقومي بجامعة جنوب فلوريدا الأمريكية، المحلل أرمان محموديان، أن «جميع هذه الإشارات، وإن كانت مبدئية، تشير إلى أن إيران قررت في هذه المرحلة اتخاذ بادرة لصالح المفاوضات مع الغرب». غير أنه ما يزال هناك غموض بشأن وصول الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى المواقع النووية. ويرى حميد رضا عزيزي، الباحث في مؤسسة العلوم والسياسة في برلين، أن «طهران تُبقي عمدًا على الغموض بشأن وضع برنامجها، والأضرار التي لحقت به جراء الضربات الإسرائيلية والأمريكية الأخيرة، بالإضافة إلى مخزونها من اليورانيوم المخصب بنسبة 60 في المئة، والذي تم إنقاذه بعد حرب الاثني عشر يوما. ويؤكد ذلك على أهمية مركزية هيئات صنع القرار في الأشهر المقبلة، بغض النظر عن المسار المتخذ [الانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي، أو تطوير سلاح نووي، أو التفاوض] بالنسبة لإيران منذ الحرب». وقد أدى هذا النهج إلى إنشاء مجلس دفاع في الثالث من آب/أغسطس الجاري، برئاسة رئيس البلاد مسعود بزشكيان، ويضم المجلس رئيسي السلطتين القضائية والتشريعية، بالإضافة إلى كبار القادة العسكريين، بمن فيهم رئيس أركان القوات المسلحة. ويعكس هذا المجلس، وفق محللين، رغبة واضحة في تركيز السلطة على الشؤون العسكرية والدفاعية. ويرى القادة الإيرانيون أنه من غير المستبعد أن يتجدد الصراع عاجلاً أم آجلاً.
ويرى الباحث إياد مجالي أن طهران تسعى إلى بناء «استراتيجية جديدة» في الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع الغرب، تتناول فيها محددات جديدة تختلف عن تلك التي كانت تعمل عليها قبل الحرب الأخيرة ضد إسرائيل. وقد قال النائب الأول للرئيس الإيراني محمد رضا عارف، وفقاً لوسائل الإعلام الرسمية، قبل بضعة أيام، إن بلاده قد تجري مفاوضات مباشرة مع الولايات المتحدة بشأن الملف النووي إذا تهيأت الظروف لذلك، معتبرا في الوقت نفسه أن المطالب الأمريكية التي تدعو طهران إلى التخلي التام عن تخصيب اليورانيوم هي «مزحة». وقال محمد رضا عارف: «إيران مستعدة للتفاوض على قدم المساواة من أجل حماية مصالحها (…) موقف الجمهورية الإسلامية ينسجم مع ما يريده الشعب، وإذا تهيأت الظروف فنحن على استعداد حتى لإجراء محادثات مباشرة».
تعاون مع الصين وروسيا
على المنوال نفسه، أدلى الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان بتصريح مثير للجدل يؤيد استئناف المفاوضات مع الولايات المتحدة، رغم حالة عدم الثقة الحالية. وقال: «ألا تريدون التحدث؟ إذن ماذا تريدون أن تفعلوا؟ هل تريدون خوض الحرب؟.. بدء المحادثات لا يعني أننا نعتزم الاستسلام. هذه القضايا لا ينبغي التعامل معها من منظور عاطفي». وعلّق عزيز غزنفرى، القائد البارز في الحرس الثوري الإيراني، على تصريحات مسعود بزشكيان، قائلاً إن «السياسة الخارجية تتطلب الحكمة، وأن التصريحات المتهورة من قبل المسؤولين قد تكون لها عواقب وخيمة على البلاد».
وسط ذلك، توجهت إيران إلى روسيا والصين في محاولة لمنع العقوبات الأوروبية المحتملة. فقد أعلن وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي يوم الرابع عشر من الشهر الجاري أن بلاده تعمل مع الصين وروسيا لمنع تفعيل آلية «العودة السريعة» الأوروبية، التي من شأنها إعادة فرض عقوبات الأمم المتحدة على طهران، بعد تهديد فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة بتفعيل هذه الآلية إذا لم يتم التوصل إلى حل دبلوماسي بحلول نهاية الشهر بشأن البرنامج النووي الإيراني، المتهم بتجاوز الحدود التي تم تحديدها في اتفاق عام 2015. وقال عراقجي: «إذا حدث ذلك، فسيكون أمراً سلبياً وسنسعى لمنعه. نحن نعمل مع الصين وروسيا لمنع تنفيذ العودة السريعة». وأضاف: «إذا لم ينجح ذلك وطبقوه، فإن لدينا أدوات للرد»، من دون أن يقدم مزيداً من التفاصيل.