مع بدء قوات التحالف الدولي بالانسحاب الفعلي من العراق، تتضح ملامح المرحلة المقبلة التي ستشهد تحولات جوهرية في طبيعة الوجود الأمريكي في البلاد، ما يتطلب توافقا سياسيا داخليا لمنع أي إرباك قد يحصل في البلاد، خاصة بملف الفصائل المسلحة، أو دخول إيران وإسرائيل بحرب جديدة.
فقد كشف مصدر أمني عراقي أن آخر جندي أمريكي سيغادر قاعدة “عين الأسد” بمحافظة الأنبار في 15 أيلول/ سبتمبر المقبل، لتُغلق بعدها مقرات التحالف الدولي هناك بشكل نهائي.
وبيّن أن “القوات الأمريكية المتمركزة في غرب العراق ستتجه إلى الأراضي السورية، فيما تُنقل القوات الموجودة في العاصمة بغداد إلى قواعد بديلة في أربيل، مع الإبقاء على عدد محدود من العناصر في بغداد حسب الحاجة”.
ويأتي هذا التطور تزامناً مع انطلاق أولى مراحل الانسحاب، حيث خرج رتل عسكري أمريكي بالفعل من قاعدة “عين الأسد” باتجاه سوريا أول أمس الاثنين.
من جهتها، أكدت السفارة الأمريكية في بغداد أن التحالف الدولي يتهيأ للانتقال من المهام القتالية إلى شراكة أمنية ومدنية أكثر تقليدية مع العراق، في إطار خطة لإعادة رسم طبيعة العلاقة المستقبلية بين الجانبين.
اتفاق مسبق وتنفيذ مرحلي
وضمن إطار الجدول الزمني المحدد لانسحاب القوات الأجنبية، يؤكد عضو لجنة الأمن والدفاع النيابية، علي نعمة البنداوي، أن “اللجنة الأمنية العليا المشتركة بين العراق والولايات المتحدة والتحالف الدولي تعمل وفق توقيتات زمنية دقيقة لتنظيم انسحاب ما تبقى من تلك القوات”.
ويوضح البنداوي، أن “الانسحاب المرتقب هو جزء من تفاهمات سابقة بين الحكومة العراقية والتحالف الدولي، ومن المقرر أن يُستكمل تنفيذه بالكامل بحلول عام 2025″، مشدداً على أن “هذه العملية تتم ضمن اتفاق رسمي، وليست خطوة أحادية الجانب”.
وفي معرض رده على المخاوف من تكرار سيناريو انهيار الأمن كما حدث في عام 2014، يقول البنداوي إن “الوضع مختلف تماماً الآن، فالقوات الأمنية بمختلف صنوفها من الجيش والشرطة والحشد الشعبي إلى جانب العشائر، تلعب دوراً كبيراً في حفظ الأمن، في ظل تلاحم وطني وغياب الحواضن التي كانت تمكّن داعش من التمدد”.
ويضيف أن “الحدود العراقية، وخصوصاً مع الجانب السوري، مؤمنة بدرجة عالية”، لافتاً إلى أن “العراق يمتلك اليوم ما يقرب من مليوني منتسب في الأجهزة الأمنية، وهو ما يعزز القدرة على التصدي لأي تهديد محتمل، سواء داخلي أو خارجي”.
كما يكشف البنداوي أن “الحكومة العراقية ماضية في تعزيز قدراتها الدفاعية عبر التوجه نحو إبرام عقود تسليح تشمل أنظمة للدفاع الجوي والقوات البرية، مؤكداً أن “الاحتياج الأكبر حالياً يتمثل في المعدات الفنية والتجهيزية لدعم جاهزية القوات المسلحة”.
خيارات صعبة وتوازنات إقليمية
أما الخبير الأمني والاستراتيجي أحمد الشريفي، فقد اعتبر أن “انسحاب التحالف الدولي من العراق سيؤسس لمرحلة جديدة من العلاقة الثنائية بين بغداد وواشنطن، ترتكز على تفعيل اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية بين الجانبين”.
ويشير الشريفي إلى أن “التحول في العلاقة مع الولايات المتحدة يتطلب توافقاً سياسياً داخلياً واسعاً”، محذراً من أن “أي اعتراض من قبل قوى الإطار التنسيقي أو الفصائل المسلحة، وعلى رأسها الحشد الشعبي، قد يؤدي إلى حالة من الإرباك السياسي والأمني داخل البلاد”.
ويوضح أن “الحكومة العراقية ستكون حينها أمام خيارين: إما الالتزام بالاتفاقات الدولية والتحالف مع واشنطن، أو الخضوع لضغوط الفصائل التي ترفض بقاء أي شراكة مع الولايات المتحدة”.
ويضيف: “في حال توصلت الفصائل إلى موقف واضح بشأن العلاقة مع واشنطن، قد يتم تجنب الأزمات، لكن استمرار المواقف المتصلبة ورفض نزع السلاح، سيُدخل العراق في مأزق خطير”.
ويحذر الشريفي من أن “الساحة العراقية تتأثر بصراع النفوذ المتصاعد بين الولايات المتحدة وإيران”، لافتاً إلى أن “أي تصعيد عسكري مرتقب بين إيران وإسرائيل قد يدفع الفصائل العراقية إلى التدخل عسكرياً، ما يضع العراق في قلب صراع إقليمي معقد”.
ويتابع: “إذا اندلع صراع مباشر بين طهران وتل أبيب، فإن الفصائل قد تتدخل ميدانياً، ما سيجعلها هدفاً لضربات أمريكية أو إسرائيلية، ويجرّ العراق إلى مسار أمني شديد الخطورة”.
ويبيّن أن “الفصائل المسلحة ترى في أي تهديد للنظام الإيراني تهديداً مباشراً لها، بسبب ارتباطها السياسي والعسكري الوثيق بطهران، وهو ما يجعلها أكثر ميلاً للتدخل في حال اندلاع مواجهة جديدة، ويجعل من ضبط تحركاتها مهمة شبه مستحيلة للحكومة العراقية”.
كما ينفي الشريفي وجود نية أمريكية لفرض عقوبات اقتصادية شاملة على العراق في حال التصعيد، موضحاً أن “العقوبات ستُفرض على شخصيات أو كيانات محددة فقط، دون أن تشمل الدولة العراقية كمجمل”.
ويلفت الشريفي إلى أن “الجولة السابقة من الحرب بين إيران وإسرائيل، والتي استمرت 12 يوماً، شهدت اتفاقاً غير معلن بين طهران والفصائل المسلحة، بوساطة عراقية، يقضي بعدم تدخل الفصائل لحماية الساحة العراقية والحكومة المدعومة من الإطار التنسيقي”.
لكنه يستدرك بالقول إن “الوضع اليوم مختلف، وإذا اندلع صراع جديد سيكون أكثر تهديداً للنظام الإيراني، وبالتالي قد تلجأ الفصائل إلى التصعيد المباشر، ما يصعّب على الحكومة، وحتى مؤسساتها الأمنية والعسكرية، السيطرة على الموقف”.
ويحذر الشريفي من أن “أي مواجهة جديدة بين إيران وإسرائيل، قد تخرج عن سيطرة الحكومة العراقية، ورئيس الوزراء محمد شياع السوداني لن يتمكن من منع الفصائل من التدخل، نظراً لأن القرار حينها سيكون خاضعاً للتوازنات الإقليمية وليس لإرادة الحكومة فقط”.
نصر سيادي و”مكاسب للمقاومة”
من جانبه، يرى رئيس مركز الهدف للدراسات، حسين الكناني، أن “انسحاب القوات الأمريكية من العراق، إذا جرى وفق ما هو معلن، فإنه يُعد نصراً كبيراً للسيادة العراقية، ونتيجة مباشرة لضغط سياسي وشعبي مارسه محور المقاومة على الحكومة، لدفع المفاوض العراقي نحو تحديد جدول زمني واضح لإنهاء الوجود الأجنبي”.
ويقول الكناني إن “الوجود العسكري الأمريكي يشكّل تهديداً مباشراً للسيادة الوطنية، وتدخلاً سافراً في الشؤون الداخلية للعراق”، مشيراً إلى أن “بعض الأطراف تحاول تضخيم المشهد الأمني والترويج لوجود خروقات تنفذها خلايا نائمة، بهدف التشويش على قرار الانسحاب”.
ويختم الكناني بالتأكيد أن “القوات الأمنية العراقية قادرة على التعامل مع هذه التحديات الأمنية المحتملة”، معتبراً أن “خروج القوات الأمريكية، في حال توافر شرط عدم تدخلها مجدداً، سيُحقق نتائج إيجابية على المستويين القريب والبعيد، سواء في الجانب الأمني أو السيادي”.
وكان مصدر حكومي عراقي قال في وقت سابق إن الحكومة العراقية اتفقت مع دول التحالف الدولي، وعلى رأسها الولايات المتحدة، على جدول زمني لسحب القوات وإنهاء مهام التحالف بحلول أيلول/سبتمبر 2026.
ويشمل الجدول انسحاب قوات التحالف الدولي من قاعدة “عين الأسد” وبغداد بنهاية أيلول/سبتمبر 2025، مع نقل جزء منها إلى أربيل والكويت، فيما سينخفض عدد القوات تدريجياً من نحو 2000 إلى أقل من 500 جندي في أربيل.