لندن- “القدس العربي”:
نشرت مجلة “فورين أفيرز” مقالا لمي حسن، الأستاذة المشاركة معهد ماساشوستس للتكنولوجيا أو “أم أي تي”، مع أحمد كودودا وهو خبير في السياسات والعمليات الإنسانية، مختص في الصراع والتنمية في الدول الهشة، قالا فيه إن النزاع الحالي في السودان من المحتمل أن ينتهي بتفكك البلاد بدون أن يوقف الحرب.
فبعد عامين من القتال المدمر، وصلت الحرب الأهلية في السودان إلى طريق مسدود. ومنذ بداية عام 2025، حققت القوات المسلحة السودانية والميليشيات المتحالفة معها مكاسب كبيرة ضد قوات الدعم السريع، الميليشيا القوية المتهمة بالإبادة الجماعية، حيث يتنافس الفصيلان للسيطرة على البلاد.
وبحلول أواخر شهر آذار/ مارس، استعادت القوات المسلحة السودانية العاصمة الخرطوم وسيطرت على القصر الجمهوري وطهرت معظم العاصمة من مقاتلي الدعم السريع. ومع ذلك، فمن غير المرجح أن تتمكن القوات المسلحة السودانية من هزيمة قوات الدعم السريع بشكل كامل، إذ لا تزال الميليشيا تحتفظ بسيطرة قوية على ما يقرب من ربع أراضي البلاد، وخاصة في الغرب.
ومن غير المرجح أيضا أن تتمكن قوات الدعم السريع، بدورها، من استعادة الأراضي التي فقدتها في الأجزاء الشرقية والشمالية والوسطى من البلاد، وهي الآن تركز جهودها على تعزيز قبضتها على منطقة دارفور الممتدة.
وعلى مدى الأسابيع القليلة الماضية، بدأت حدة القتال في التراجع، ولكنها تشتد مرة أخرى في عاصمة ولاية شمال دارفور، مدينة الفاشر، المعقل الأخير المتبقي للقوات المسلحة السودانية في غرب السودان. وبما أن خطوط المواجهة في الحرب باتت واضحة إلى حد كبير، فالسوابق التاريخية تشير إلى أن الآن قد يكون الوقت الأفضل لوقف إطلاق النار أو حتى إجراء مفاوضات السلام.
ففي العديد من الصراعات الأفريقية السابقة، شجع الجمود في ساحة المعركة الجهات الفاعلة الدولية للضغط من أجل إجراء مفاوضات، كما حدث في عام 2005، عندما أنهت المحادثات التي تدعمها الولايات المتحدة الحرب الأهلية السودانية الثانية بعد أكثر من عقدين من القتال بين المتمردين الجنوبيين والخرطوم.
وفي الواقع، قد يبدو أن التقسيم القانوني، على غرار انفصال جنوب السودان في عام 2011، الخيار الأقل سوءا. وبخاصة أن الشعب السوداني يحتاج إلى فترة راحة. فقد أدى الصراع الأخير إلى تدمير البلاد وأسفر عن مقتل ما يصل إلى 150,000 شخص ونزوح ما يقرب من 13 مليونا، وما يصل إلى 25 مليون شخص يواجهون انعدام الأمن الغذائي الشديد أو المجاعة.
ومع ذلك، يرى الكاتبان أنه من الوهم التفكير بأن الحرب الأهلية في السودان ستنتهي بمفاوضات تقود إلى سلام دائم.
والسبب هو أن النزاع الذي دخل عامه الثالث عمل على تعميق خطوط الصدع العرقية والإقليمية القائمة. كما أن المذابح التي ارتكبتها قوات الدعم السريع، قللت من جاذبية المفاوضات للعديد من داعمي القوات المسلحة السودانية. وفي الوقت نفسه، هناك مجموعة واسعة من الجهات الفاعلة، بما فيها الدول الأجنبية القوية، لديها مصلحة في استمرار دعم فصائلها المفضلة، بشكل يجعل من التوصل إلى تسوية سلمية تقود إلى تشكيل حكومة واحدة أمرا صعبا.
في بالمقابل، فالتاريخ يشير بقوة إلى أن أي نوع من أنواع التفتت المناطقي أو الجهوي سوف يفشل أيضا في تحقيق الاستقرار.
فلم يخفف انفصال جنوب السودان من حدة الصراع الذي يلتهم المنطقة. وكل ما فعله هو حرف القتال إلى مكان آخر، حيث تفككت المجموعة المتمردة التي حاربت الخرطوم، وبدأت فصائلها في قتال بعضها البعض.
ولا يستبعد الكاتبان ظهور سيناريو مشابه لليبيا واليمن، حال استمرت الأطراف المتحاربة في رفض وقف إطلاق النار أو محادثات السلام. وهو ما يصفه الكاتبان بأنه انقسام بحكم الأمر الواقع، حيث يظل السودان قائما بالاسم فقط. وستسيطر مراكز القوى المتنافسة على أجزاء مختلفة من البلاد فيما تستمر الحرب بين العديد من الجماعات التي تقاتل اليوم، إلى جانب الجماعات الجديدة التي من المرجح أن تظهر في المستقبل.
وبشكل مشابه، لا يمكن وصف الحرب الحالية في السودان على أنها نزاع واضح بين طرفين. صحيح أنها بدأت بخلاف بين قائد الجيش عبد الفتاح البرهان وزعيم قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو، أو حميدتي.
وكان البرهان وحميدتي قد تحالفا للإطاحة بالحكومة الانتقالية التي يقودها المدنيون والتي نشأت بعد الإطاحة بالدكتاتور عمر البشير في عام 2019، لكنهما انقلبا على بعضهما البعض في 15 نيسان/ أبريل 2023. وعلى مدى العامين الماضيين، اتسع مجال النزاع إلى حرب أكبر من مجرد صراع بين جنرالين، وباتت تضم اليوم العديد من المجموعات السودانية والرعاة الأجانب ذوي القدرات الجيدة مثل مصر وإيران وروسيا والمملكة العربية السعودية وتركيا والإمارات العربية المتحدة.
كما نشأت ميليشيات جديدة مستعدة للتحالف مع طرف في الحرب، وانضمت جماعات مسلحة أقدم إلى القوات المسلحة السودانية أو قوات الدعم السريع. وتشمل المجموعات الأقدم الميليشيات القبلية والإقليمية الرئيسية، مثل جيش تحرير السودان وحركة العدل والمساواة، وكلاهما متمركز في منطقة دارفور ومتحالفان مع القوات المسلحة السودانية، فضلا عن الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال، وهي قوة متمردة قديمة تحالفت مع قوات الدعم السريع.
وينوه الكاتبان أنه لا القوات المسلحة السودانية ولا قوات الدعم السريع تدعيان أنهما تخوضان الحرب لأسباب أيديولوجية. وعلى الرغم من أن قيادة القوات المسلحة السودانية وصفت معركتها بأنها معركة غير طائفية من أجل بقاء الدولة، فقد هيمن الإسلاميون على صفوف كبار ضباطها لمدة تقرب من أربعة عقود. وبعد أن سلح نظام البشير ميليشيات الجنجويد لمواجهة التمرد الذي كانت تقوده مجموعات غير عربية في دارفور، قام في عام 2013 بتنظيم هذه الميليشيات رسميا ضمن قوات الدعم السريع. على الرغم من أن الميليشيات المكونة لقوات الدعم السريع قد اتهمت بشكل موثوق بالإبادة الجماعية، إلا أنها قامت بمناسبة وتبني مظلومية الجماعات المتمردة التي أرسلت للقضاء عليها، أي الشعور بالتهميش والحرمان من الحقوق.
ويرى الكاتبان أن أهم دافع للحرب الحالية، هو محاولة السيطرة على المعادن الثمينة للبلاد ومقدراتها الزراعية. وتتمتع البلاد باحتياطيات ضخمة من الذهب ولديها ثاني أكبر مساحة من الأراضي الصالحة للزراعة في أفريقيا، وهو ما جعل القوى المحلية والأجنبية تتنافس للسيطرة على هذه الموارد.
ويرى الكاتبان أن غياب البعد الأيديولوجي من النزاع الحالي في السودان يجعل -وإن نظريا- من إمكانية التفاوض على توزيع الثروة والمناصب بين الطرفين أو الأطراف المتحاربة أمرا سهلا، لكن واقع الحرب غير ذلك، فرغم قدرات الجيش السوداني العددية وسيطرته على المجال الجوي، إلا أن مقاتلي الدعم السريع لديهم خبرة في حرب المدن، وهذا سبب سيطرتهم على الخرطوم ومدن أخرى لمدة عامين. ولم تنجح عدة جولات من المفاوضات في السعودية لجمع المتحاربين ودفعهم لتسوية.
ولعل المانع للحل هو أن كل الجهود لحل النزاع السوداني أساءت فهم ديناميته، فلا الجيش السوداني أو قوات الدعم السريع قادر على هزيمة الآخر. وقد استطاع كلاهما الحفاظ على مكاسبه أو توسيعها بطريقة أقنعت الداعمين المحليين لهم والإقليميين بإمكانية تحقيق مكاسب.
وعلاوة على ذلك، لا يبدو أن أي طرف في النزاع مستعد للتنازل أو خسارة المكاسب المادية ومصادر الثروة التي حققها.
وقد حاول كل طرف في النزاع البحث عن دعم خارجي. وقامت الإمارات بالحفاظ على علاقتها مع الدعم السريع التي بدأتها ما بين 2015- 2019 عندما استعانت بمقاتلي حميدتي كمرتزقة في حربها باليمن. ومن أجل تأمين ممر للحصول على الذهب، أرسلت طائرات محملة بالأسلحة عبر تشاد.
أما مصر التي تريد الحصول على حليف داعم لها في الخرطوم، وهي تحاول تأمين تأثيرها على مياه النيل وفي حربها مع إثيوبيا، فقد أرسلت السلاح للجيش السوداني، ويقال إنها شنت غارات جوية ضد قوات الدعم السريع. وتعتمد مصر على الموارد السودانية التي يتم تهريبها لدعم اقتصادها الضعيف.
وقد دعمت دول أخرى جانبا في الحرب، فالسعودية التي لعبت دور وسيط السلام علنا، انحازت ضمنا إلى جانب القوات المسلحة السودانية خلال الجولات الماضية من المفاوضات، ويرجع ذلك جزئيا إلى منافستها الإقليمية مع الإمارات. كما سعت القوات المسلحة السودانية لفتح قنوات مع روسيا، التي تريد إنشاء قاعدة عسكرية على البحر الأحمر، وحصلت مؤخرا على طائرات بدون طيار من إيران وتركيا، وهما دولتان تريدان أيضا نفوذا أكبر على ممرات الشحن القريبة.
وبالنسبة لهؤلاء الشركاء الدوليين والإقليميين، فالجمود غير الرسمي لا يختلف كثيرا عن السلام المتفاوض عليه. فما دامت منطقة سيطرة كل تحالف محددة إلى حد كبير، فستظل الأنشطة الاقتصادية المهمة لهؤلاء الرعاة قائمة بدون الحاجة لحل سياسي.
كما بإمكانهم الحفاظ على وصول الإمدادات من وكلائهم دون حاجة إلى اتفاقيات التعامل التجاري مع دولة شرعية، مثل اللوائح والتعريفات الجمركية، ولن يحتاجوا لمواجهة الاحتجاجات الشعبية ضد استخراج الموارد الطبيعية التي لا تتحكم بها إلا مجموعة صغيرة.
ويعتقد الكاتبان أن أهم معوق للتوصل إلى حل سياسي دائم في السودان، كامن في الطرفين المتصارعين. فرغم غياب الهوية الإثنية الواضحة أو الأيديولوجية، إلا أن كلا الطرفين يعاني من هشاشة وقابلية للانقسام والانشقاقات، كما حدث مع قائد قوات درع السودان الذي انشق على القوات السودانية وساهم في مكاسب الدعم السريع بمنطقة الجزيرة ثم انشق مرة أخرى وساعد الجيش للسيطرة على المنطقة مرة أخرى.
ويناقش الكاتبان أن توصيف الحرب في السودان على أنها صراع بين العرب والأفارقة، هو تبسيطي، فقد تجاوزت الحرب البعد الإثني.
ويبدو السودان اليوم منقسما بشكل فعلي، حيث يقع الغرب إلى حد كبير، باستثناء الفاشر، عاصمة شمال دارفور تحت سيطرة قوات الدعم السريع، بينما تقع المناطق الشرقية والشمالية ووسط البلاد تحت سيطرة القوات المسلحة السودانية. وفي شباط/ فبراير وقّعت قوات الدعم السريع وشركاؤها في نيروبي على اتفاق يمهد الطريق لإعلان حكومة موازية على مساحات شاسعة من الأراضي التي تسيطر عليها.
وربما بدا تقسيم السودان في الظاهر نتيجة جذابة، إلا أنه لن ينهي النزاع، والسبب كامن في بنية التحالفات الهشة والقابلة في أي وقت للكسر والانشقاق والانقسام. علاوة على ذلك، فالتقسيم غير المتجانس عرقيا من الصعب الحفاظ عليه، نظرا لضعف مؤسسات الدولة السودانية أو غيابها، وخاصة في المناطق المهمشة تاريخيا والتي تسيطر عليها قوات الدعم السريع.
وإذا انقسمت البلاد أكثر، فإن كيانيها السياسيين الناشئين -أحدهما غير ساحلي- سوف يكونان أقل قدرة على البقاء اقتصاديا بكثير مما لو بقيا متحدين. ولأن الحرب في السودان نابعة من محاولات السيطرة على المناطق والمصادر بدلا من الاختلاف على رؤية سياسية، فمن المرجح أن تستمر التحالفات في التغير وأن تستمر الميليشيات في الانشقاق وأن تستمر الجماعات المنشقة في التشكل. ومن المؤسف أن مستقبل السودان سيكون، على الأرجح، المزيد من الحرب، بدلا السلام أو التقسيم.